شد كباش بين جنوب افريقيا واميركا و«اسرائيل»

منذ بداية ولاية دونالد ترامب الثانية، شهدت العلاقات السياسية والأمنية بين الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا توترات لافتة وتحولات مهمة منها وقف المساعدات الأميركية لدولة جنوب إفريقيا بسبب الخلافات السياسية، نتيجة موقف بريتوريا من قضية الإبادة الجماعية في قطاع غزة في محكمة العدل الدولية ضد الكيان الصهيوني، وبسبب علاقاتها المتزايدة مع الصين وروسيا. وقد عمدت الولايات المتحدة على الصعيد الاقتصادي إلى فرض قيود على الصادرات الجنوب أفريقية وتقييد الامتيازات التصديرية، بسبب هذه الخلافات السياسية، ما ترك أثره على تدفقات الاستثمار والتجارة بين البلدين.

وبين مد وجزر في العلاقات بين الجانبين، بدأت تتصاعد وتيرة التوتر في الفترة الأخيرة، لا سيما حين انتقد ترامب قانون الإصلاح الزراعي في جنوب أفريقيا والدعوى التي رفعتها بلادها ضد «إسرائيل» أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية. واتخذت إدارته سلسلة إجراءات بدأت بإلغاء المساعدات إلى جنوب أفريقيا، ومنح اللجوء للأقلية البيضاء بدعوى تعرضها للتمييز، ووصلت في آذار الماضي إلى طرد سفيرها إبراهيم رسول متهمة إياه بأنه يكره البلاد ورئيسها دونالد ترامب، حسبما أعلن وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو الذي قال عن رسول أنه «شخص غير مرغوب فيه»، ووصفه بأنه «سياسي يؤجج التوترات العرقية». لم تتوان جنوب أفريقيا عن الرد إذ اعتبرت أن طرد سفيرها في واشنطن إجراء «مؤسف»، مؤكدة ضرورة الإبقاء على «اللياقة الدبلوماسية» بين البلدين.

الرئيس ترامب الذي يهوى معاداة الدول والشعوب إدعى أن «الناس يهربون من جنوب أفريقيا حفاظاً على حياتهم. تُصادر أراضيهم، وفي كثير من الأحيان يُقتلون». هذا التصريح أثار حفيظة جنوب أفريقيا التي رفضت هذه المزاعم، وشددت على أنها عانت تاريخياً من التمييز ضد السود إبان الاستعمار ونظام الفصل العنصري قبل التحول إلى الديمقراطية المتعددة الأحزاب عام 1994 بقيادة نلسون مانديلا.

حيال كل هذه التطورات المتسارعة أثبتت جنوب افريقيا أنها تمتلك قراراتها بنفسها وسيادتها على قراراتها. لها الشجاعة الكافية لتكون قراراتها نابعة من مصالح شعبها خصوصاً حين أعلنت مؤخراً أنها أوقفت رسمياً جميع الشركات الاميركية على أراضيها وتوقفت عن تصدير المعادن إلى الولايات المتحدة. ويأتي ذلك بعد أيام قليلة فقط من قطع ترامب جميع التمويلات الاميركية لجنوب أفريقيا ولمنظمة USAID في جنوب افريقيا. وبذلك تكون حكومة جنوب أفريقيا قد أوضحت بشكل قاطع لترامب أن أميركا ليست شيئاً من دون المعادن الأفريقية. وأن ترامب إذا كان يعتقد أن الأفارقة ليسوا أكثر من مجرد متسولين، فعليه البحث عن المعادن في مكان آخر لأن أفريقيا قد سئمت من عدم الاحترام والإزدراء الذي تتلقاه من العالم الغربي.

الجدير ذكره أن الولايات المتحدة تحقق أرباحاً تزيد عن 25 مليار دولار من جنوب إفريقيا سنوياً، وبالتالي سيؤثر هذا على الاقتصاد الأمريكي. وتتمتع جنوب أفريقيا باحتياطيات معدنية هائلة إذ تمتلك 13% من الاحتياطيات العالمية من الذهب، بالإضافة إلى احتياطيات كبيرة من المنغنيز والزركونيوم.. وتعتبر البلاد رائدة في إنتاج وتعدين هذه الموارد، والتي تشمل أيضاً الفحم والحديد، والقصدير، واليورانيوم، والماس. وتحتل جنوب أفريقيا المرتبة الأولى عالمياً في احتياطيات معادن مجموعة البلاتين وتعتبر منجماً عالمياً لها.

ووسط العنجهية الأميركية، ووحشية العدو الصهيوني في قطاع غزة لم تكن جنوب أفريقيا واقفة موقف المتفرج إذ قدّمت طلباً رسمياً إلى محكمة العدل الدولية في 29 كانون الأول عام 2023 يتهم «إسرائيل» بارتكاب أعمال إبادة جماعية في قطاع غزة وسقوط الآلاف من الضحايا بسبب القصف وأعمال التهجير القسري للفلسطينيين من بيوتهم .وفي كانون الثاني عام 2024 قامت برفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية بتهمة انتهاك التزاماتها بموجب اتفاقية منع جرائم الإبادة الجماعية، وانضمت أيرلندا إلى نيكاراغوا وكولومبيا والمكسيك وليبيا وبوليفيا وتركيا وجزر المالديف وتشيلي وإسبانيا ودولة فلسطين في طلب التدخل في القضية. ومنذ يومين أعلنت ماليزيا والبرازيل تأييدهما لجنوب أفريقيا في الدعوى التي رفعتها أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي ضد «اسرائيل». ويتزامن هذا الموقف في إطار اتساع دائرة الدول التي تعلن تأييدها للمسار القانوني الذي تتبعه جنوب أفريقيا، بهدف محاسبة دولة الاحتلال على انتهاكاتها الجسيمة للقانون الدولي الإنساني.

العلاقة بين جنوب أفريقيا والمسألة الفلسطينية ليست وليد الساعة إذ تعود إلى تسعينيات القرن الماضي. عام 1997 قال نيلسون مانديلا رمز التحرر من سياسة التمييز العنصري «لن نكون أحراراً حقاً ما لم يتحرر الشعب الفلسطيني أيضاً». هذا الموقف كرره رئيسها الحالي سيريل رامافوزا وهو يدين جرائم الاحتلال «الاسرائيلي» في غزة. ومنذ عام 1994 اتخذت جنوب أفريقيا مواقف منحازة لفلسطين بعد أن كانت تسمى الحديقة الخلفية ل «اسرائيل» خلال حقبة نظام التمييز العنصري. في تلك الحقبة شدد نظام الابارتيد قبضته الأمنية فاضطهد مناوئيه بلا تردد وألقى بزعامات حزب المؤتمر الوطني الافريقي وعلى رأسهم نيلسون مانديلا في السجون.

تجربة نظام الفصل العنصري جعلت النظام الجديد في جنوب أفريقيا يدرك حجم معاناة الشعب الفلسطيني وجعله يتضامن أخلاقياً وفعلياً مع نضال الشعب الفلسطيني لتقرير مصيره. وبعد توليه السلطة عرف مانديلا بمواقفه المساندة للقضية الفلسطينية وهو النهج الذي سار عليه أسلافه.

في نهاية 2017 خفضت جنوب أفريقيا التمثيل الدبلوماسي مع الكيان الصهيوني من سفارة إلى مكتب اتصال رداً على اعتراف إدارة ترامب بالقدس عاصمة «اسرائيل». كما وضعت بريتوريا نفسها في طليعة الدول التي تتبنى حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات ضد هذا الكيان. وخلال الحرب الحالية والمتواصلة على غزة كان الموقف الرسمي الجنوب أفريقي متميزاً في إدانة جرائم «اسرائيل» واتخذت خطوات تصعيدية تجاه تل أبيب بدأت بتحميل هذا الكيان مسؤولية التوتر بسبب عدم تنفيذه القرارات الدولية بشأن حل الدولتين ثم قطعت العلاقات الدبلوماسية مع دولة الاحتلال وطالبت بإحالة قياداته على محكمة الجنايات الدولية متهمة إياهم بارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين. ولم تتوقف عند ذلك لتقوم بخطوة تاريخية لم تسبقها إليها أي دولة وقدمت شكوى أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها «اسرائيل» بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين.

والسؤال المطروح هو هل من أثمان قد تدفعها جنوب أفريقيا مقابل هذه المواقف المشرفة خصوصاً في ظل رسائل التهديد «الاسرائيلية».