في زمن الصورة السريعة والمعلومة المتدفقة، لم تعد الأنظمة السلطوية بحاجة إلى الهراوات أو السجون لتفرض سطوتها.. يكفي أن تمتلك شاشاتك، وتطبيقاتك، وبعض المشرّعين المهرة في صناعة قوانين ضبابية، كي تضمن لك صمتاً عاماً يبدو كأنه رضة.
السلطوية اليوم لا تصرخ.. بل تهمس., لا تحكم بالقوة، بل تُقنع، توهم، وتُغرق الناس في دوامات من الترفيه والجدل والنقاشات العقيمة.
نحن أمام نموذج من «الاستبداد الناعم» الذي لا يقتل الديمقراطية، بل يفرغها من معناها.
ديمقراطية على الورق.. وتحكم خلف الستار
تبدو بعض الأنظمة الحديثة وكأنها تعيش حالة ديمقراطية تعددية: انتخابات، إعلام، معارضة، منظمات مجتمع مدني، و«هوامش» مفتوحة للنقاش.. لكنها في العمق تمسك بكل الخيوط: من صياغة الرأي العام إلى تحديد من يعلو صوته ومن يُسحب المايكروفون من أمامه.
الإعلام، مثلاً، يُعرض فيه النقد، لكن ضمن سقف. تُستضاف فيه معارضة، لكن من النوع القابل للترويض أو المُحاط بقيود الوقت والموضوع. حتى السخرية السياسية أصبحت جزءاً من استراتيجية التفريغ: يضحك المواطن قليلاً، فيرتاح، ثم يعود إلى صمته اليومي.
التكنولوجيا.. الحليف الخفي
في السلطوية القديمة، كان على النظام أن يتجسس على خصومه ويلاحقهم عبر تقارير استخباراتية.. أما الآن، فالمواطن نفسه يسلم كل أسراره يومياً وبشكل طوعي، عبر تطبيقات التواصل، محركات البحث، وتعليقاته على الأخبار.
الخوارزميات تفهمك أكثر مما تظن.. تحدد اهتماماتك، تحلّل ميولك، وتمنحك المحتوى الذي يُبقيك مشغولاً أو غاضباً من الجهة الخطأ.. والنتيجة؟ مراقبة كاملة دون حاجة لأجهزة أمنية تقليدية.
السلطة لا تخافك وأنت تعترض على فنان أو فريق كرة قدم أو حتى وزير.. ما دمت لا تلمس البنية العميقة للنظام.. هنا فقط، يظهر القمع، ولكن بلغة القانون، لا العنف.
قوانين ناعمة.. لكن مشرعة جيداً
السلطوية الحديثة لا تحتاج لمحاكم استثنائية.. يكفي أن تشرّع قوانين غامضة العناوين:
«مكافحة الشائعات»، «أمن المعلومات»، «التحريض على الكراهية»… كلمات مطاطة تتيح معاقبة أي صوت يزعج النظام، تحت غطاء القانون.
وهكذا، لا يبدو النظام استبدادياً. بل مجرد «حامٍ للنظام العام».. والمواطن قد لا يُسجن، بل يُمنع من التوظيف، تُحظر صفحته، يُلغى نشاطه، أو يُغرق في قضايا طويلة الأمد تستهلك طاقته.
صناعة الطاعة عبر الإغراق
واحدة من أخطر أدوات السلطوية الناعمة هي «الإشغال الممنهج». إشغال الناس بجدالات مستمرة، قضايا ثقافية مشتعلة، حملات أخلاقية، ومقارنات بين نجوم الفن والسياسة.. كل ذلك يجعل القضايا الكبرى: كالحقوق، الفساد، التوزيع العادل للثروة، خارج دائرة التركيز.
وحين يفقد المواطن بوصلته، يصبح أكثر قابلية لتصديق الرواية الرسمية، أو على الأقل، أكثر تعباً من التفكير.
ختاماً: حين تصبح الطاعة عادة
ما يُخيف في السلطوية الناعمة ليس القمع، بل التطبيع معه.. أن يعتاد الناس على أنصاف الحريات، وأنصاف المعارضين، وأنصاف الحقائق.. حتى تصبح الحياة السياسية مسرحاً بلا جمهور فعلي.
السلطوية لم تعد تفرض الطاعة بالقوة. بل تجعلك تمارسها وأنت مقتنع أنك حر.
فهل هناك قيدٌ أقسى من ذلك الذي لا نراه؟
سامي زرقة

