كي لا ننسى جبران خليل جبران!

بالإضافة إلى المشاكل العديدة التي تعاني منها بلادنا، هناك آفة الجهل وانعدام الثقافة التي تكتسح مجتمعاتنا وهي من المخاطر الكبرى التي تزاد على المخاطر المتنوعة التي تحيط بنا.

 أصبحت مجتمعاتنا اليوم مخروقة من التشويه الثقافي والسطحية وصارت اللامبالاة والسخافة في كل مكان بمساعدة السوشيال ميديا، شبح يزحف صوبنا تحت عباءة التطبيع الفكري والثقافي الهدّام بأفكاره الماجنة التي نعرفها تماما لكن لا أحد يجسر على مواجهتها.

من الأمور التي تؤلمني بشدّة انعدام الثقافة لدى شبابنا الذين ينهلون ثقافة الوجبات السريعة من التيك توك وما تقدّمه لهم نيت فليكس من فيض أفلام ومسلسلات وعزوفهم عن القراءة ومطالعة المؤلفات الفكرية والأدبية لمفكري بلادنا وإذا أجرينا إحصاءُ سريعا بين تلامذة المتوسط والثانوي كم تلميذ سنجده مهتما بجبران خليل جبران مثلا والريحاني أو حتى سمع بطه حسين أو جمال الغيطاني، نزار قباني أو الجواهري وغيرهم.  ثقافتنا مهددة بسبب هجمة التطبيع وفقدان الهوية الثقافية صار واقعا؛ وبات من النادر أن نجد شبابا يقرأون آثار الكبار الفكريّة، سوى قلّة من أصحاب الاختصاص في كليّات الآداب وهذا لا يكفي لأن الثقافة لا تنحصر بين جدران الجامعة وتسجن فيها!

مؤلم أن تسأل طلابا عن مبدع مثل جبران خليل جبران؛ لتجد أنهم لم يسمعوا به قط ولو أن جبران موجود في المناهج المدرسيّة، لكن هذه المناهج لم تعد بذي فائدة وذاكرة الطلاب فاسدة ومعطّلة! لذلك ولكيلا ننسى جبران وتأمّلاته الخالدة، سوف أختار حفنة من اقتباساته العميقة التي تلامس الروح وتحيي الفكر البشري وتنفخ فيه روحا جديدة.

يُعرف جبران خليل جبران، الشاعر والفنان والفيلسوف، برؤاه الخالدة حول الحبّ والحياة والطبيعة الإنسانية. كلماته تتحدث الى الروح والعقل لدى البشر وهي عابرة للثقافات والأجيال، حاملة للمعنى بعمق فلسفي بيد أنها تظهر في بساطتها قريبة من كل الناس.

 تُعلّمنا كتاباته أن الجمال والمعاناة والحكمة تسير جنباً إلى جنب، و فيما يلي مجموعة من أعمق اقتباساته وأكثرها تأثيراً في القلوب، تُظهر لنا حكمته العميقة في حقائق الحياة وتذكّرنا بأن نجد النعمة والقوة والحب حتى في أكثر لحظات الحياة هشاشةً.

«من المعاناة تنبثق أقوى الأرواح؛ وأعظم الشخصيات وُسِمت بالندوب.»

تُبرز كلمات جبران كيف يُكوّن الألم الشخصية ويصقلها. فقد رأى أن القوة والحكمة غالباً ما تنشآن من الشدائد. وكما تُقوّي النار الحديد، تُصلب المعاناة روح الإنسان. أولئك الذين يصمدون أمام تجارب الحياة بشجاعة يخرجون أقوى وأكثر تعاطفاً وارتباطاً بالجوهر الإنساني.

 «العمل هو الحب مرئياً.»

هذا الاقتباس يعبّر عن نظرة جبران الشعرية إلى العمل والغرض. فهو يرى أن العمل يتحول من واجب إلى إبداع عندما نغرس فيه الحب. كلّ مهمة نؤدّيها بشغف تصبح تجسيداً للمحبة والإخلاص، وتذكرنا بأن الرضا الحقيقي يأتي من انسجام الحب مع الجهد.

«الجمال ليس في الوجه؛ الجمال نور في القلب.»

يتحدث جبران هنا عن جوهر الجمال الداخلي. فهو يرفض التعريفات السطحية، ويذكرنا بأن الجمال الحقيقي يوجد في اللطف والرحمة والاستقامة. فالمظهر الجسدي يتغيّر، لكن القلب المحب يظل متوهجاً إلى الأبد. كلماته تحثّنا على النظر إلى ما وراء المظاهر واكتشاف الجمال الأسمى الكامن في الداخل.

«إنك تعطي قليلاً حينما تعطي من مقتنياتك، ولكنك لا تعطي حقاً إلا عندما تعطي من نفسك.»

في هذا التفكير العميق، يُعيد جبران تعريف معنى العطاء. فالعطاء الحقيقي، كما يقول، لا يأتي من الثروة أو الممتلكات، بل من منح الوقت والطاقة والتعاطف. عندما نقدم حضورنا ودعمنا العاطفي، فإننا نعطي شيئاً لا يُعوّض — نعطي ذواتنا الحقيقية. هذا النوع من العطاء يُغني المعطي كما يُغني المتلقي.

«ألمك هو انكسار القشرة التي تغلف فهمك.»

يعبّر هذا التشبيه الشعري عن أن النمو الإنساني غالباً ما يأتي بثمن الألم. فكما تنكسر قشرة البذرة لتنبت، يجب على الإنسان أن يمرّ بالمشقة ليزدهر.

 الألم يبدّد الأوهام ويفتح آفاق الوعي، مفسحاً المجال للحكمة والرحمة. إنه تذكير بأن الألم عينه يمكن أن يكون دليلاً في رحلة معرفة الذات.

 «ليكن بين وجودكم معاً فُسحات، ولتتحرّك رياح السماوات فيما بينكم.»

هذا اقتباس من كتاب النبي يتناول التوازن في العلاقات بحيث يؤكد جبران أنّ الحب يعيش في الحريّة لا في التملك. فكما تنمو الأشجار متباعدة تحت السماء نفسها، يحتاج الأزواج إلى مساحة يتنفّسون فيها وينمون ويحتفظون بفرادتهم.

إنّ الحب الحقيقي، في نظر جبران، يحترم الاستقلالية ويقدّر التواصل في آنٍ واحد.

 «الإيمان هو معرفة في القلب، تتجاوز حدود البرهان.»

لا يرى جبران الإيمان كعمى، بل كقناعة شخصية لا تهزّها الحجّة المنطقيّة. فالإيمان الحقيقي، كما يعلن، لا يحتاج إلى تصديق العالم الخارجي، بل هو فهم داخلي لسرّ الحياة وخيرها. إنه الصمت الذي يدعمنا في أوقات الشك، والذكرى التي تُذكّرنا بأن بعض الحقائق تُعرف بالشعور لا بالإثبات.

«لا تعرف المحبة عمقها إلا ساعة الفراق.»

هذا التأمل المؤثر يجسّد مرارة الحب وحلاوته. فكثيراً ما لا ندرك عمق مشاعرنا إلا بعد أن نفقد من نحب أو نبتعد عنه. فالمسافة تُبرز ما كان خفياً تحت العادة، وتُظهر المشاعر التي لم نلتفت إليها. تذكّرنا كلمات جبران أن نُقدّر من نحب بصدق ووعي، لأن أعظم قوة للحب تظهر في امتحان البُعد والفقد.

تظل كلمات جبران خليل جبران مناراتٍ للحكمة الأبدية، لأنها تعكس تعقيدات الطبيعة الإنسانية، بما فيها من فرح وحزن، إيمان وحب متشابك. تدعونا كلماته إلى التأمل في ذواتنا، وإيجاد المعنى في الألم، والجمال في البساطة، والقوة في الرحمة. ومن خلال تأملاته العميقة، نتذكر أن أعظم حكم الروح تُكتسب في الصمت. لذلك علينا أن نستفيق من غفلة السطحية التي تجتاح مجتمعنا وتروّج للجهل ، لكي نعود إلى الأصول و نقرأ آثار من كانوا في أساس نهضتنا علّنا نعثر على طريق للخروج من كبوتنا وننقذ ما تبقى من تراثنا الفكري قبل أن يقضي علينا شبح التجهيل الذي يهاجمنا بعنف غير مسبوق ! …