دجلة والفرات وصراع المشرق الوجودي

في بداية التاريخ المتمدن استطاع الانسان الذي قطن على مصب نهري دجلة والفرات ان يواجه التحدي البيئي من صحراء مجاورة ومناخ حار وفياضانات موسمية فسخّر هذه البيئة لتطوره وتحسين معيشته بحفر القنوات واستغلال المياه لري الاراضي في العصر النيوليتي (8300-3200 ق.م.). كان نتيجة ذلك، أن مارس الإنسان شكلاً بدائيًا من الزراعة، حيث انتقل من نمط حياة الصيد إلى الاستقرار في قرى ثابتة، وتعلم زراعة المحاصيل وتدجين الحيوانات كمصدر غذائي أساسي بدلاً من الاعتماد الكلي على الموارد البرية، وقد أدى هذا الى تأسيس اول اجتماع بشري حضاري فاضت خيراته عن احتياجاته. لتصريف هذه الخيرات، ابتكر السومريون التجارة ووضعوا الشرائع والقوانين لتنظيم المجتمع الذي توسع شمالا على طول ضفاف النهرين فتفاعل ايجابيا مع الأكاديين والبابليين ومن ثم الاشوريين ولم يحد من وهجه وامتداده الحضاري الا الفواصل الطبيعية من جبال طوروس وزغروس في الشمال والشرق والصحراء في الجنوب.  

 هذا الاشعاع الحضاري الآتي من ضفاف دجلة والفرات في الشرق لاقاه اشعاع حضاري كنعاني-آرامي على ضفاف المتوسط في الغرب الذي كان هو الآخر قد وضع مداميك اساسية في نقل الانسان من عصره الحجري الى مسيرة التمدن من خلال زراعته ومجتمعاته المستقرة واحرفه الابجدية وتبادله التجاري لإنتاجه الصناعي مع شعوب حوض البحر المتوسط. هذا اللقاء الحضاري امتزج وتفاعل بشكل طوعي ومتجانس فأنشأ امة اكتمل اشعاعها على كامل بيئتها الطبيعية الخصبة من جبال زغروس الى البحر المتوسط ومن جبال طوروس الى الصحراء العربية. رغم ان الاشوريين انتصروا على الآراميين عسكريا لكنهم تبنوا أحرف ابجديتهم ولغتهم لسهولتها واصبحت الاحرف الآرامية-الكنعانية لغة الامة الاشورية (تطور الاسم فيما بعد ليصبح سوريا) واصبحت هذه الاحرف فيما بعد اساس كل اللغات في العالم. بين الزراعة والصناعة والتجارة والابجدية استطاعت هذه الامة الفتية ان تنقل الانسان من الحياة البدائية الى حياة جديدة أصبح فيها العقل يتحكم بالموارد الطبيعية وفُتح فيها المجال للتواصل بين جميع الامم لخير الانسان.

هذا الابداع الحضاري اصيب بعدة نكسات اعاقت تقدمه وكادت ان تضيع هويته وكان اولها في العام 539 ق.م. عندما غزاه الفرس من الشرق وقضوا على الدولة البابلية، آخر الدول النهرينية. تبع ذلك غزوات اخرى اغريقية ورومانية استمرت حوالي 11 قرنا حتى القرن السابع بعد الميلاد.  أخطر ما حصل خلال هذه الفترة هو انشطار الامة السورية المشرقية الى شطرين شرقي تحت سيطرة الفرس وغربي تحت سيطرة الاغريق ومن ثم الرومان. هذا الانشطار زاد في تجويف بادية الشام و”كاد أن يفصل بين الشّام والعراق أو “بين شرق سوريا وغربها لولا النّهران السّوريان العظيمان الفرات ودجلة اللّذان حفظا استمرار العمران السّوريّ وإمكانية تكاثره وتوثيق الحياة القوميّة ضمنه”، كما ذكر أنطون سعاده في كتابه نشوء الامم.


 بعد أكثر من 1200 سنة (539 ق.م. – 661 م.) من الجمود والتراجع بسبب الحروب والغزوات والهجرات المتتالية استطاعت هذه الامة السوراقية المشرقية ان تستوعب كل الهجرات الجديدة التي اتت اليها خلال هذه الفترة ونهضت بهم ثانية بعد الفتح العربي وفرضت ثقافتها عند انتقال قيادة الدولة العربية الاسلامية الى دمشق في العام 661م ومن ثم الى بغداد في العام 750م. خلال هذه الفترة عوْلمت الامة السوراقية الاسلام وقادت الامبراطورية الاسلامية من الصين الى أوروبا فقدمت للبشرية الكثير في علم الرياضيات، والفلك، والطب وغيرها. هذا الانبعاث الجديد لم يكن ممكنا لولا ثروة هذه الامة المادية التي اهمها شبكة الانهر التي تربطها من دجلة والفرات وروافدهما في الشمال والشرق الى بردى والعاصي والاردن والليطاني في الغرب، وكذلك ثروتها الثقافية-النفسية-الروحية المتمثلة بشعب حي اجاد استعمال هذه الثروة فكرا وصناعة وغلالا.

مرة اخرى لم يكتب لهذا الاشعاع الحضاري ان يستمر أكثر من ثلاثة قرون فاستمرت الهجرات والغزوات في الالقية الثانية بعد الميلاد حتى اليوم فتفككت الدولة المركزية في بغداد وتقاسم غنائمها الفرس والمغول والصليبيون والعثمانيون الاتراك، ومن ثم الفرنسيون والانكليز الذين أفرغوا كل حقدهم وغضبهم على امة حمورابي ونبوخذ نصر وأشور بانيبال وهنيبعل وهشام وهارون وصلاح الدين في معاهدة سايكس-بيكو ووعد بلفور فشلّعوها إربا واقاموا الدولة العنصرية الصهيونية على جنوبها.

لقد أيقن الغرب الاستعماري ان استعادة هذه الامة السوراقية لسيادتها سينهض بكل العالم العربي ويعيد لكل العالم توازنه، فها هم مستمرون بالعمل للقضاء عليها بكل الوسائل، ومنها إبادة وتهجير شعبنا في الجنوب الفلسطيني وتقسيم سوراقيا الى دويلات عرقية طائفية تشرعن الدولة العنصرية اليهودية. بموازاة ذلك ينفذون خطة أخرى أكثر خطورة لسلب هذه الامة مواردها وثروتها التي ضمنت لها النهوض والابداع بعد كل مرة ظنها فيها اعدائها منقرضة. عندما عرض الاتراك مشروع جنوب شرق الاناضول المعروف بالغاب (GAP) على الاميركيين في السبعينات كان الرد الأميركي ان المشروع محدود ويمكن ان يكون أكثر طموحا وشمولا. تركيا سمعت ’ النصيحة ‘الأميركية فوسعت مشروع جنوب شرق الأناضول (GAP) على دجلة والفرات ليشمل 22 سدا لري أكثر من 1,7 هكتار و19 محطة لتوليد الطاقة الكهربائية، وبذلك تحجب عن الشام والعراق أكثر من 70% من مياه دجلة والفرات التي مصدرها تركيا الحالية (جبال طوروس) وتهدد البلدين بالتصحر.

الاسرائيليون بدورهم أبدوا اهتماما ملحوظا بالمشروع بعد العام 1993 فقدموا الهبات والقروض والمساعدات التقنية التي كانت عاملا اساسيا لضمان استمرار المشروع، ووقعوا على بروتوكولات مع الحكومة التركية سمحت لهم بشراء الاراضي في منطقة المشروع المتاخمة للحدود الشامية-العراقية. لقد أُنجز أكثر من 95% من المشروع واهمها سد اتاتورك على الفرات الذي أُنجز في 1992، ومؤخرا سد أليسو على دجلة الذي افتُتح في 2018.

أثبتت الدراسات والأبحاث ان نتائج هذا المشروع وسدوده 22 كارثية على سوريا والعراق.  في العام 1987 وقعت سوريا” بروتوكولاً امنياً“مع تركيا حصلت بموجبه على ’وعد‘ تركي بضخ 500م3\الثانية (15 مليار م3 سنويا) من الفرات في مقابل الأمن على الحدود بين البلدين. سوريا والعراق بدورهم اتفقوا على تقاسم هذه الكمية بنسبة 60% (9 مليار م3) للعراق و40% (6 مليار م3). هذا الوعد لم تلتزم به تركيا جديا وهو خاضع للمزاج السياسي الذي تحركه الاحتياجات الزراعية ونسبة هطول الامطار والاهداف الاستراتيجية والاستعمارية التركية. في أخر قياس لمعدل تدفق نهر الفرات الى العراق في أيار 1921 لم تتعد الواردات المائية 181 م3 بالثانية، أي 5,5 مليار م3 سنويا وما نسبته 18-19% فقط من اجمالي مياه نهر الفرات البالغة 30 مليار م3 سنويا.

مصير نهر دجلة بالعراق ليس بالأفضل من توأمه الفرات بعد بدء الخدمة بسد اليسو في 2019، ففي بحث علمي ل”مركز نهرين للسياسات المائية وتغير المناخ” عن تدفق مياه نهر دجلة على الحدود العراقية-التركية، نشر في صيف 2025، أظهرت النتائج انخفاض كبير في معدلات الواردات المائية لنهر دجلة (جدول-1)، “حيث هبط معدل تصاريف عمود نهر دجلة اعتباراً من شهر حزيران 2019 من 495 إلى 121 متر3 في الثانية”، (أي انخفاض بمعدل 75,5% من 15 مليار م3 الى 3,7 مليار م3 سنويا)، مما يشير إلى تحول جذري وخطير في تدني التصاريف المائية الواردة من سد اليسو التركي على نظام النهر منذ تلك الفترة ومستمرة الى الان. الجدير بالذكر ان هذا الانخفاض الحاد سيزداد سوءا وخطورة بعد اكمال سد الجزرة لري 121 الف هكتار حوالي 40 كيلومتر جنوب سد اليسو.

جدول-1 – معدل تدفق مياه نهر دجلة على الحدود العراقية-التركية

هذه الانخفاض الحاد بسبب السدود التركية والذي يصل الى 70-75% من نهري دجلة والفرات يقابله تحويل إيراني (ولو بدرجة أقل) لروافد دجلة الى الداخل الإيراني واستغلال محلي مفرط لمياه أحد اهم الروافد، نهر الزاب الأكبر (ينبع من داخل الحدود التركية)، في إقليم كردستان الذي ترفض قيادته إكمال سد بخمة او اي مشروع آخر يوزع المياه بشكل عادل على كل العراق. أمام هذا الواقع الخطير نرى ان ما حذر منه تقرير صادر عن الامم المتحدة (يونيسف) سنة 2023 وتقريرين للمنظمة الدولية للبحوث ولمنظمة المياه الاوروبية في 2007، عن احتمال موت نهري دجلة والفرات في العراق في العام 2040 بسبب السدود التركية والتغيرات المناخية يتحقق تدريجيا لمواجهة شريعة “الغاب” التركية، تهرول الحكومة السورية والعراقية بدون ماء الى تركيا تستجدي اطلاق تركيا لمزيد من المياه بدون أي خطة استراتيجية تستغل القانون الدولي (الذي هو لصالحها اجمالا) والتبادل التجاري وغيره من ’الأسلحة‘ التي يمكن استعمالها. بموازاة ذلك يسير الشعب العراقي الى كارثة كبرى، على غرار كارثة شعب فلسطين، سيُشرد فيها لاجئو المياه العراقيون الى المدن العراقية والدول المجاورة، ويتحول الهلال الخصيب على أثرها الى هلال نضيب، حيث سيصبح العراق وأجزاء كبيرة من سوريا امتدادًا لصحراء شبه الجزيرة العربية.

ان دجلة والفرات هما هبة المشرق السوراقي وركيزة أساسية في حياته وحضارته ومجده. على ضفافهما انصهرت الشعوب وتمازجت فأعطت العالم اهم الحضارات التي نقلت الانسان من العصر الحجري الى العصر المتمدن، وبفضلهما توقف امتداد الصحراء من الجنوب على الهلال الخصيب فمنعوا انشطاره الى مجتمعين منفصلين. ان مسالة دجلة والفرات هي مسالة حياة او موت لشعبنا في بلاد الشام-العراق وبدونهما لن تكون هناك نهضة ولا قيامة.

راجي سعد  ـ تورنتو كندا