التفاوض تحت النار

عندما غزّت «إسرائيل» لبنان عام 82، وتخطت الأربعين كلم ووعد واشنطن انها تهدف فقط الغاء الوجود الفلسطيني في لبنان، دون ان تفصح ان استهدافها كان السيطرة على لبنان بدءا بأيصال بشير الجميل، إلى رئاسة الجمهورية، والذي كان شرطه استكمال السيطرة على لبنان من خلال الوصول إلى محيط القصر الرئاسي في بعبدا وهذا ما حصل.

أمس في الحرب المستمرة على لبنان وبقصدّ جرّه إلى مفاوضات مباشرة كان المشهد للمسيرات فوق بعبدا يظهر الصورة عينها منذ أربعين عاما ونيف وكأن جحافل المسيرّات المحلقة بشكل منخفض فوق قصر بعبدا، هي عينها قوات الغزو البرية كما يجمع الخبراء الاستراتيجيين الذين يعتبرون المسيرّة توازي جيشاً من المشاة، نظراً لقدراتها الاستطلاعية والحربية التدميرية ايضاً.

وهذّا ما تفعله كل يوم انتهاكات العدو رغم اعلان وقف الحرب منذ عام، وهي تعدت الخمسة الاف وأدت بالتالي إلى استشهاد ما يفوق المئة شهيد بينهم اسر وأطفال.

إذا تجعل «إسرائيل» من المسيرات التي تزدهم في سماء العاصمة بيروت وفوق القصر الجمهوري في بعبدا والقصر الحكومي، وكذلك فوق موكب رئيس مجلس النواب المتوجه للقاء رئيس الجمهورية، وسيلة ضغط مباشر. لا سيما وان معضلة الساسة اللبنانيين إنهم يؤخذون على حين غرّة فوراً، فاستبعادهم عن قمة شرم الشيخ دفع رئيس الجمهورية إلى الإعلان عن استعداد لبنان للتفاوض المباشر مع العدو. تصريح صادم لجزء كبير من اللبنانيين، اكان من بيئة المقاومة والمتعاطفين معها ومن الحريصين على تضحيات لبنان ومواقفه التاريخية المتمسكة بالثوابت وان لبنان هو آخر دولة تذهب إلى التفاوض المباشر وان ذلك لن يحصل إلا بعد  قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس.

هذا الموقف عبر عنه مؤخراً مفتي الجمهورية بعد لقائه مع النائب الحوت.  وقد ترافق مع موقف الرئيس نبيه بري إثر لقائه «الممتاز» كما وصفه، مع رئيس الجمهورية، الذي رفض أي صيغة للتفاوض الا من خلال آلية «الميكانيزم»، أي التفاوض غير المباشر.

هذا الموقف الحاسم برفض «التفاوض المباشر» أوقف الجدل، إلا على لسان بعض طالبي«الدبس من النمس»، لا سيما وان العدو الإسرائيلي وعلى لسان الوسيط الأميركي توم باراك ابلغ اللبنانيين رفض العدو «إطلاق مسار تفاوض يبدأ بوقف العمليات لشهرين، وينتهي بانسحاب العدو من نقاطه المحتلة وإطلاق مسار لترسيم الحدود مع ترتيبات أمنية.»

هذا التعنت «الإسرائيلي»، وجدت فيه السلطة اللبنانية المتراخية، بعضاً من اخذ النفس، الذي يوقف تسرعها باتجاه الانخراط فيما تريده «إسرائيل»

وإذا كان فائض القوة الذي تمارسه تل ابيب على المنطقة بأكملها ،نتيجة الدعم الأميركي السياسي والعسكري غير المحدود فأن تل أبيب ما زالت تستدرج واشنطن إلى صفها حيث جاءت زيارة نائب الرئيس الأميركي إلى تل أبيب (جي دي فانس) لتؤكد حجم الشراكة الأميركية – الإسرائيلية، واكد نتنياهو ذلك بقوله «ان قوة إسرائيل ستخدم مصالح اميركا، وان اميركا القوية ستخدم مصالح دولته.

وهذا بالطبع ما اثبتته الحرب وحجم الدعم الذي قدمته واشنطن لتل ابيب دون ان تبالي بالغضب والرفض الشعبي الغربي الذي تجلى في التظاهرات الداعمة لفلسطين من بوابة غزة، حتى ان هناك مصادر تعتبر انه حتى وقف النار الذي حصل، صنعه ترامب حرصاً على ما تبقى من صورة العدو في الغرب، بعد اداناته المباشرة بالإبادة والقتل.

واليوم على الساحة اللبنانية، اذ تلجأ واشنطن إلى سياسة الحصار الاقتصادي والمالي ، يدعمها اللوبي اللبناني في واشنطن يرافقه من الداخل قوى سياسية لديها مشاريعها غير الجديدة بدعم موقف العدو نفسه بنزع سلاح المقاومة، ليس من جنوب الليطاني وحسب بل من كل لبنان مما يحوله  لقمة سائغة لمشاريع العدو من الجنوب وأيضاً في الشمال الشرقي. في عودة إلى شعار «قوة لبنان في ضعفه»، والى مرحلة كانت فيه الساحة اللبنانية مستباحة للعدو براً وجواً.

ما يجري اليوم هو مخاض جديد  للساحة اللبنانية بين التنازل والسير في ركاب مشروع العدو دون أن يستعيد الحقوق  أو يحفظ الأرض وأيضا كرامة الشهداء فيما يهدف المتربصون  بالبلد وقوته  إلى  تحصيل مكاسب سياسية داخلية رخيصة، من خلال  الدفع  والضغط على لبنان للقبول بالتفاوض المباشر، مستندين إلى حالة  الارتهان العربي والانخراط الغربي في مشروع المطامع الإسرائيلية والهيمنة الأميركية القائمة على مفاصل القرار في العالم وعلى المؤسسات الدولية الناظمة للسياسة الدولية .و يساند هؤلاء سياسة إعلامية ممنهجة تهدف إلى غسل الأدمغة وتظهر للبنانيين ان السلام الموعود سيجلب ازدهاراً اقتصادياً غير مسبوق  فيما المطروح نزع أراضي وتحويلها إلى مناطق اقتصادية ،  وكذلك .تأخير استكشاف النفط والغاز لارتهان الشركات للحصار الأميركي.

 هذا الزيف الهادف إلى الهيمنة بالقوة على المنطقة أو ما يسميها «إسرائيل الكبرى» يدفع بنا نحن أصحاب الحقوق واهل الأرض إلى عدم التخلي عن منطق قوة الامة نفسها كما يقول سعاده معتبراً انه دون القوة «لا ضمان للامة في الحياة على الإطلاق» أن منطق القوة والنصر في الحياة لا يصنعه الاستسلام وهذا منطق كل احرار العالم وأولهم  سعاده القائل «قد تكون الحرية حملاً ثقيلاً، ولكنه حمل لا يضطلع به الا ذوو النفس الكبيرة أما النفوس العاجزة فتنوء وترزح وتسقط غير مأسوف عليها».