من بارصليبي إلى النهضة الحديثة: العقل السوري في رحلة النور

في تاريخ الأمم لحظات لا تُقاس بالسنوات، بل بجرأة الصراع، الصراع بين الرجعية والنهضة، بين التبعية الفكرية والفكر الحر، بين التفكير النقدي والتقديس الأعمى، بين الخضوع وبين الاستسلام، انه صراع بين ضوء العقل وظلام التقليد البالي.

وفي مسيرة الفكر السوري، يمتدّ خيطٌ من النور يربط بين أسماء عديدة، ثلاثة منها تبدو متباعدة في الزمن، لكنها تلتقي في جوهر الرؤية حيث تمتد رحلةٌ واحدة للإنسان الباحث عن ذاته بين نور الإيمان، وصوت الحرية، ونداء النهضة.

هي رحلة العقل الذي لم يتوقّف يومًا عن طرح السؤال الأكبر: كيف تُبنى الأمم الحرّة، وكيف يُبنى الإنسان الحرّ؟

يعقوب بار صليبي: العقل في حضرة الإيمان

في القرن الثاني عشر، حين كانت أوروبا تغرق في ظلمات العصور الوسطى، كان في ديار بكر رجلٌ يكتب بالسريانية عن نور العقل وحرية الفهم.

يعقوب بارصليبي، الأسقف والفيلسوف، رأى أن الله لا يُعبَد بالجهل، بل بالمعرفة، وأن الإيمان لا يكتمل إلا إذا أضاءه العقل.

كتب في تفسيره للكتاب المقدّس لا ليفسّر النصوص فحسب، بل ليحرّرها من الجمود ويعيدها إلى روحها الأولى: روح السؤال، والبحث، والفهم.

كان من أوائل من قالوا إن الحقيقة لا تخاف من النور، وأن العقل عطيةٌ إلهيةٌ تُهدر حين تُعطَّل. بهذا الفكر، دشّن بارصليبي المرحلة الأولى من النهضة السورية نهضة داخلية تبدأ من الإنسان،وتجعل من الوعي الديني طريقًا للمعرفة لا وسيلةً للهيمنة.

في زمنٍ كان فيه كثيرون يخشون السؤال. لم يكن راهبًا خارج التاريخ، بل مفكرًا داخل صراع الوعي.

أدرك أن الإيمان من دون فكرٍ يتحوّل إلى طقوسٍ جامدة، وأن الفكر بلا روحٍ يتحوّل إلى آلةٍ باردة.

لذلك صاغ معادلة الشرق الأبدية: أن نكون مؤمنين بالعقل، وعقلانيين بالإيمان.

ومن هناك، من تلك البذور الهادئة انبثقت أولى ملامح النهضة السورية، كحركةٍ روحية–فكرية تسعى إلى تحرير الإنسان من الجهل والخوف.

عبد الرحمن الكواكبي: من حرية الإيمان إلى حرية الدولة

بعد سبعة قرون، في حلب القرن التاسع عشر، ولد رجلٌ أعاد للعقل صوته في مواجهة استبداد السلطة والدين معًا.

هو عبد الرحمن الكواكبي، صاحب «طبائع الاستبداد» و«أم القرى»

رأى الكواكبي أن الدين في جوهره دعوة إلى الحرية، لكن الاستبداد حوّله إلى وسيلة للطاعة والخضوع. فدعا إلى فصل الدين عن الدولة، لا رفضًا للدين، بل صونًا لقدسيّته من التوظيف السياسي.

قال بوضوح نادر:

«ما أهونَ الدينَ إذا صار وسيلةً في يد السلطان« وفي هذا القول تختصر ملامح المرحلة الثانية من النهضة السورية: الانتقال من تحرير الإيمان بالعقل إلى تحرير الدولة من الكهنوت السياسي.

الكواكبي رأى أن النهضة لا تكون بوعظٍ ولا بشعارات، بل بإنهاء سلطة الخوف التي تُعطّل العقل وتمنع الأمة من النهوض.لقد وضع الأساس لفكرة الدولة المدنية

التي يكون فيها الدين نورًا في القلب، لا سوطًا في يد الحاكم.

أنطون سعادة: العقل القومي وبناء الإنسان الجديد

ثم جاء القرن العشرين، فوجد أنطون سعادة الأمة مشرذمة، تائهة بين طوائف ومصالح، تبحث عن ذاتها في مرايا الخارج.

فقال: «العقل هو الشرع الأعلى» معلنًا أن النهضة ليست مجرد فكرة سياسية، بل تحوّل في الوعي، من الانتماء الموروث إلى الانتماء الواعي، ومن الولاء للقبيلة والطائفة إلى الولاء للأمة والحق والعقل.

في فكر سعادة، نضج التيار الذي بدأه بار صليبي والكواكبي: فالأول حرّر الإيمان من الخرافة، والثاني حرّر الدولة من الاستبداد، سعادة حاول أن يحرّر الإنسان من التجزئة، ليبني أمة حرة، عاقلة، متماسكة بالوعي لا بالعصبية.

رأى سعادة أن النهضة القومية الاجتماعية ليست مجرد إصلاحٍ سياسي، بل هي بعث للإنسان السوري الجديد الذي يتحرّر من الخوف والانقسام والتبعية، ويستعيد وعيه بوحدة مجتمعه ووحدة مصيره.

هذا الإنسان الجديد لا يولد صدفة، بل يُبنى بالتربية الفكرية والأخلاقية، وبالإيمان بأن العقل هو المعيار الأعلى للحقيقة، وأن المجتمع لا ينهض إلا حين يدرك أفراده أن الحرية مسؤولية، وأن العدالة لا تتحقق إلا بالوعي والعلم والنظام.

لقد أراد سعادة أن يخرج بالعقل من دائرة الجدل إلى حركة النهضة الفاعلة، حيث تتحوّل الفكرة إلى عمل، والمبدأ إلى واقع.

فالنهضة القومية الاجتماعية عنده ليست شعارًا ولا نظرية مغلقة، بل منهج حياةٍ يربط بين المعرفة والعمل، بين الحرية والنظام، وبين الفرد والمجتمع، في سبيل خلق مجتمع جديد، يكون فيه الإنسان سيّد نفسه، مؤمنًا بعقله، ملتزمًا بقيم الحياة والارتقاء.

بهذا المعنى، لم تكن النهضة عند سعادة مجرّد وعي سياسي، بل مشروعًا لتأسيس حضارةٍ جديدةٍ تبدأ من إعادة بناء الإنسان السوري إنسانٍ لا يُقاد بالغريزة أو العصبية، بل يقوده العقل والوجدان الحرّ والإرادة الواعية نحو مستقبلٍ يليق بالأمة.

النهضة السورية: مشروع وعيٍ متصل

من بارصليبي إلى الكواكبي إلى سعادة، تبدو النهضة السورية كرحلةٍ واحدة، تبدأ من تحرير العقل الديني، وتتطوّر إلى تحرير الوعي السياسي، وتنتهي عند تحرير الإنسان بكليّته.

إنها ليست انتقالًا من الدين إلى الإلحاد، بل من الخضوع إلى الوعي، ومن التقديس الأعمى إلى الفهم النبيل.

لقد أراد هؤلاء المفكرين أن يقولوا، كلٌّ بلغته وعصره:إن النهضة ليست مسألة هوية طائفية أو قومية فحسب، بل هي تحوّل في طريقة التفكير من التسليم إلى النقد، ومن الاتباع إلى المسؤولية،

ومن الخوف إلى الحرية.

هكذا نرى إن الفكر النهضوي السوري، منذ جذوره الأولى لم يكن مشروعًا سياسياً بقدر ما كان مشروع وعيٍ إنساني شامل. نهضةٌ تجعل من الإنسان مركز الوجود، ومن العقل وسيلة الخلاص، ومن الحقيقة رسالة مشتركة تتجاوز الطوائف والحدود.

هي نهضةٌ لا تبدأ ببيان، بل بجرأةِ إنسانٍ يسأل:

من أنا؟ وما دوري؟ وكيف أكون جديرًا بالحياة؟ وما الذي جلب على أمتي هذا الويل؟

إنها النهضة السورية الكبرى: نهضة لا تعرف زمنًا، لأنها ليست حدثًا سياسيًا بل مسار وعيٍ أبديّ، يبدأ كلما قرّر الإنسان أن يفكر، وأن يكون حرًّا في وجه الجهل، مؤمنًا بالعقل، عاقلًا بالإيمان.