خلاصة السياسة الأميركية البارعة: الازدواجية!

لمن يدرس العلوم السياسية في هذا العصر، أحب أن أختصر له فنّ السياسة في الولايات المتحدة والعالم في هذه المقالة بكلمة واحدة كافية وافية في المطلق؛ إنها سياسة «الازدواجية» يا رفاق المعرفة والتنوير، أو كما نقول في لغتنا المحليّة: سياسة اللعب على الحبلين، أو الرقص على الحبال في سيرك «بارنوم» الشهير، أو حتى لعبة الكشتبان وهي أهم لعبة نصب واحتيال ابتكرها الإنسان على وجه الأرض فوق أرصفة مدن العالم الحديث.

وحتى أوفّر عليكم كثرة الشرح والكلام أفيدكم ببعض الأمثلة المعبرة والحديث الأكثر تداولا هذه الأيام هو الحديث عن السلام الذي تروّج له دوائر السياسة الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا، ففي خطاب للرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون في سبعينات القرن الماضي قال ما يلي:

الشرف الأعظم الذي يمكن أن يمنحه التاريخ، هو لصانع السلام…

وربّ سائل أي سلام يقصده الرئيس نيكسون ومنذ ذلك الزمان والعالم يشتعل في أزمات وحروب لا نهاية لها، ريتشارد نيكسون هذا الذي، انغمس حتى أذنيه في فضيحة « ووتر جايت» التي كان من الممكن أن تسبب بانهيارات وحروب أهلية في الولايات المتحدة، ولكن كما هي دوما الحال تلفلف الفضائح وتعمل التسويات بفضل فاعل خير خفي على إطفاء نيران الحرائق والفتن فيستقيل الرئيس وتعود المياه إلى مجاريها وكأن شيئا لم يكن. ما هو تفسير هذه الظاهرة؟ إنها بكل بساطة الازدواجية!

أيضا ها هو الرئيس اوباما الذي، كان قد وعد بسحب الجنود الامريكان من افغانستان لدعم انتخابه، ولم يمض وقت وجيز على انتخابه رئيسا حتى أرسل 34,000 من الجنود الى افغانستان نقيض ما صرّح به أمام الإعلام!

 واليوم شُغل العالم بقصة الجائزة العالمية جائزة نوبل للسلام ومسألة منحها الى الرئيس دونالد ترامب وحين حجبت عنه قامت قيامة دوائر البيت الابيض ولم تقعد. وقصفت إدارة القيّمين على الجائزة إعلاميا كما تمّ اتهامهم بالعمالة وعدم الكفاءة وأشياء أخرى، ولكن حين علمت هذه الدوائر أن الناشطة متشادو التي حصلت على الجائزة هي من مؤيدي الكيان الصهيوني بشدّة، سارع دونالد ترامب إلى تهنئتها، وقدّم لها خالص احترامه وتقديره معتبرا أنّها جديرة بالجائزة نظرا لنضالها وقال إنه لا يطالب بالجائزة له وحده، بل كان يطالب بها للحكومة الأميركية نظرا لإنجازاتها في إحقاق السلام في العالم!

إن دلّت هذه المواقف المتقلّبة على شيء فهي تدلّ على الازدواجية لدى ساسة هذه البلاد، التي تعتبر نفسها أم العالم والحاكمة بأمر الله في كلّ شعوب الأرض!

إنها الازدواجية العمياء، التي تساوي الأذكياء بالحمقى والعقلاء بالسفهاء والمجرمين بالأبرياء، النوّى التي تخلط القمح مع الزؤان، والبارد مع الحار؛ معايير سلوكيّة اعتباطية ومخططات جهنميّة وفوضى عارمة تقضي على كلّ انجازات الانسان في ميدان العقل والمنطق.

فوق كلّ ذلك يطلبون من النّاس في كلّ دول العالم أن يعتذروا من هذا الجبار الأكبر وهم بالحقيقة أبرياء لم يفعلوا شيئا لا بل تعرضوا للظلم، والحصار، والدمار، والإبادة.

 ثمّة مثل أمريكي شائع جدا في الغرب يقول:

إذا نمت مع الكلاب فسوف تستيقظ مليئا بالبراغيث!

وهذا ما يحصل في العالم الآن يدعونك الى حفلة التيس ويلوّثونك بقذارتهم ويطلبون منك أن تكون ممتنّا، راضيا وشاكرا فلا تتذمّر من شيء، بل تشكرهم على موتك المعلن كما في حكاية: قصة موت معلن لجبريال غارسيا ماركيز. اختار ماركيز بطل هذه القصة سانتياغو نصّار ليكون من أصل لبناني من هؤلاء الذين هاجروا الى امريكا اللاتينية هربا من ظلم بلادهم، وحين تبدأ الرواية بإعلان موت سانتياغو نصّار في قرية كولومبية، نعلم لاحقا أن أهل القرية فشلوا في منع الجريمة من أن تحصل مع علمهم المسبق بالتخطيط لها من قبل مجرمين أشقياء!

هذا ما يحصل مع شعوب العالم التي تخضع لسياسة الازدواجية حيث لا قوانين ولا معايير ولا يجب علينا أن ننسى أن هذه الازدواجية هي في الأصل مرض نفسي خطر وعميق، ينتهي بصاحبه الى الانتحار لأن المزدوج الشخصية، يصيب نفسه بالعلل المستعصية، ولا يتصالح لا مع ذاته ولا مع غيره إلا في حالة الانتقام والغضب والتسلّط، ولا تكفي حتى شفاعة الاستعانة بالمزمور الذي يقول: طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون،فهذا الشعار كان متداولا في الصحافة العالمية يوم اتفاق كمب ديفيد السيء الذكر، وشاهدنا احتفالية اقتسام الخبز والملح بين الموقعين، ولكن ما حصل بعد ذلك هو اختفاء الخبز من على موائد فقراء العرب المعاندين كما المتصالحين والمتسالمين و فسد الملح فسادا لا سابق له، فأيّ شيء يملّحه كما قال السيد المسيح وهو الذي خبر كيف تكون الخديعة اليهودية بالازدواجية وتركيب الملفات والاتهامات التي تنتهي على درب الجلجلة فالصلب، ولا يسعني سوى أن أقول هنيئا لكلّ المدعوين الى مائدة الخبل لأن كرة الروليت المقامرة لم تتوقف بعد ولا تزال تدور و تدور و تدور..

حاتم طيّ