المحاضرات العشر وخطاب ديك المحدي
في كتاباته وفي المحاضرات العشر، يؤسس سعاده لفلسفة التضحية على أنها المحك الحقيقي للإيمان والنتيجة المنطقية للوعي القومي. فهو يرى أن «النهضة لا تُبنى إلا بدماء وتضحيات»، ليس بمعنى التمجيد الأعمى للموت، بل لأن التضحيةَ هي التعبيرُ العمليُّ الأقصى عن الإيمان الحي.
وفي خطاب ديك المحدي (1947)، يقدم سعاده تصوراً عضوياً عميقاً للتضحية على أنها استعادة لملكية الأمة لما هو أساساً ملك لها. فهو يعلن: «إن الدماء التي تجري في عروقنا ملك للأمة لا لنا: هي وديعتها فينا التي يحق لها أن تطلبها منا في أية ساعة وأية دقيقة». بهذه الصياغة، تتحول التضحية من «نكران للذات» إلى «تحقيق لها في أسمى صورها.»[1] إذ يجد الفرد كماله الحقيقي ليس في تملكه لذاته، بل في عطائها للأمة التي هي مصدرها وغايتها. فالأنا الفردية تذوب لا لتفنى، بل لتتحول إلى طاقة في «النحن» القومية الأوسع.
هذا الربط العضوي ـ حيث الفرد «قطعة» من جسد الأمة ـ هو الذي يخلق القوة التي «تسيطر وتقود.»[2] فالقوة، كما يوضح سعاده في الخطاب ذاته، لا تنبع من تجمّع أفراد يعبّرون عن ذاتياتهم، بل من «وحدة المجتمع والغاية الإنسانية الكبرى»، ومن كون هذه الجماعة «تعبر عن أماني المجتمع كله، عن آمال المجتمع النبيلة.»[3]
وعليه، فإن إعلان سعاده في المحاضرات العشر ـ «نحن مستعدون لكل تضحية من أجل انتصار الـمبادىء وانتصار الأمة بواسطة انتصار هذه الـمبادىء»[4] ـ يجد جذوره في هذا الإيمان العضوي. التضحية هنا هي الضريبة الطبيعية للارتقاء من الفردية إلى القومية، ومن «الجمود» إلى «الارتقاء». إنها الفعل الذي يُخضع المصلحة الفردية لـ«الخير العام»، مما يضمن «سلامة المجتمع وفلاحه». وبذلك، يصبح الاستعداد للتضحية هو البرهان الحي على صحة العقيدة وقوة «الروح المتولدة من مبادئها»، وهو ما يجعل من القومي الاجتماعي، كما وصف سعاده نفسه في ديك المحدي، قوة صاعدة «تملأ الكون.»[5]
هنا يلتقي مفهوم سعاده مع مقولته: «في سبيل الوطنية يهرق الحر دمه. … الوطنية تقتضي تضحية وبمقدار التضحية تكون الوطنية ـ بالتضحية تحيا الوطنية وبالوطنية تحيا الأمم.»[6] فالتضحية هي الوقود والدم الذي يضخ الحياة في جسد الأمة، وبدونها تفقد روحها وقدرتها على البقاء والارتقاء، مصداقاً لفكر سعاده الذي يجعل من التضحية القاعدة التي لا تقوم لأي مجتمع جدير بالبقاء بدونها.
الجذور السورية للتضحية
لم يكن اختيار سعاده لمفهوم التضحية منعزلاً عن التراث السوري العميق، بل يمثل امتداداً طبيعياً للرموز الأسطورية والتاريخية السورية. ففي الأساطير السورية القديمة، نجد روايات عن آلهة مثل تموز (أدونيس) وبعل، الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل خير البشرية واستمرار الحياة. وفي ملحمة جلجامش – التي تدور أحداثها في مدينة أوروك السومرية – نموذجاً للتضحية من أجل الصديق، كما تجسَّد في تضحية «أنكيدو» من أجل «جلجامش»، البطل العظيم المعروف بأعماله الجليلة.[7]
وهذا الجذر الرمزي للتضحية استمر في التاريخ السوري الحديث، كما تجلى في معركة ميسلون واستشهاد يوسف العظمة، مما يجعل التضحيةَ عند سعاده ليست قيمةً مستوردةً، بل امتداداً لروح متجذرة في الوعي الجمعي السوري، أعيدت صياغتها في مشروع نهضوي حديث.
استشهاد أنطون سعاده: الذروة التطبيقية للتضحية
ولم تكن هذه الفلسفة مجرد تنظير بعيد عن التطبيق، بل بلغت ذروتها التجسيدية في استشهاد أنطون سعاده نفسه في الثامن من تموز 1949. ففي خطابه التاريخي في بشامون (1948)، جسَّدَ سعاده المبدأ الذي آمن به حين قال: «إنّ الحياة كلها وقفة عز فقط»، مؤكداً أن «سلامتي لم تكن ولا تعني لي إلا تكة… أما ما يعني لي شيئاً يمكن أن أتمسك به بكل قواي فهو مبادىء النهضة السورية القومية الاجتماعية.»[8]
لقد حوّل سعاده استشهاده من مجرد نهاية تراجيدية إلى «وقفة عز» خالدة، مجسِّداً قوله: «إنّ أزكى الشهادات في الحياة هي شهادة الدم.»[9] فما كان إعدامه إلا تتويجاً لمسيرة حياةٍ مُمتَلئَةٍ جهَدًا وعطاءً، زاخرة بالآلام والتَّضحياتِ التي بدأت منذ تأسيس الحزب، وبلغت ذروتها عندما رفض المساومات والتنازلات، مفضلاً الشهادة على التنكر للمبادئ.
وبهذا يكون سعاده قد قدّم النموذج الأمثل للتضحية التي دعا إليها: تضحية تكون فيها القضية أعز من الحياة ذاتها. فاستشهاده لم يكن مجرد حدث تاريخي، بل أصبح مدرسةً حيةً في التضحية والوفاء، ومصدر إلهام للأجيال اللاحقة، ودليلاً عملياً على أن التضحية بالذات هي الطريق إلى خلود الأمة.
خاتمة
يمثل مفهوم التضحية في فكر أنطون سعاده نسيجاً متكاملاً حُوكم بخيوط فلسفية وتاريخية وعقائدية. فقد نجح سعاده في تحويل التضحية من مفهوم مجرد يُختزل أحياناً في البذل المادي أو الفداء في ساحة المعركة، إلى فلسفة حياة شاملة.
وإذا كانت الشهادات التاريخية من أليسار إلى يوسف العظمة تمثل تجليات سابقة لهذه الفكرة، فإن استشهاد سعاده نفسه كان التجسيد الأعلى لهذه الفلسفة، حيث حوّل نظريته إلى ممارسة حيّة، مجسِّداً مقولته: «الحياة كلها وقفة عز فقط».
إنها موقف وجودي يرفض الذل، وقيمة أخلاقية عملية تتجسّد في الانضباط اليومي والعمل الصامت، وتجربة إنسانية عاطفية عميقة، وشرط لا غنى عنه لتحقيق النهضة. وبذلك أصبحت التضحية هي المعيار الذي يقاس به تحول الفرد من كائن بيولوجي أناني إلى إنسان تاريخي، يعي أن وجوده الحقيقي ليس في بقائه الفردي، بل في استمرار أمته وارتقائها.
وهكذا، يجمع سعاده في رؤيته بين البعدين: الرمزي المتمثل في استشهاد البطل، والعملي المتمثل في عطاء الإنسان المجهول. في هذه الثنائية تتجلى أصالة فكر سعاده، الذي جعل من التضحية الوعاء الذي يجمع تراث الأمة وحاضرها ومستقبلها، والوقود الذي لا ينضب لأي مشروع نهضوي يطمح إلى تحرير الإنسان والأمة معاً. وتبقى تضحيته القصوى في الثامن من تموز شاهدةً على أن النظرية عندما تلتزم بالممارسة، تصير قوةً تغيّر التاريخ وتخلد الأمم.
[1] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948-1949، خطاب الزعيم في ديك المحدي، الكوكب، بيروت، السنة 16، 20 و21 ديسمبر/ كانون الأول 1947.
[2] المرجع ذاته.
[3] المرجع ذاته.
[4] المرجع ذاته، ص 38.
[5] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948-1949، خطاب الزعيم في ديك المحدي،
[6] أنطون سعاده، الآثار الكاملة ـ الجزء الأول، مرحلة ما قبل التأسيس (1921-1932)، “الوطنية، بيروت 1975، ص 17-18.
[7] انكيدو، حسب الملحمة البابلية، كان صديق جلجامش والساعد الأيمن له. راجع فراس السواح، كنوز الأعماق ـ قراءة في ملحمة جلجامش، الطبعة الأولى 1987، سومر للدراسات والنشر والتوزيع، نيقوسيا، ص 29- 53.
[8] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948-1949، ملحق رقم 2 خطاب الزعيم في بشامون 3/10/1948.
[9] المرجع ذاته.

