السيطرة على غزة ومشروع تفتيت سورية الكبرى

منذ أكثر من سبعة عقود، ظلّت غزة عصيّة على التطويع رغم ضيق مساحتها وقسوة الحصار عليها. غزة ليست مجرد قطعة أرض محاصرة على شاطئ المتوسط، بل هي مختبر سياسي وأمني وجيوستراتيجي يُراد من خلاله إعادة هندسة المشهد العربي برمّته. لذلك، كل محاولة للسيطرة على غزة لا يمكن النظر إليها بمعزل عن المشاريع الأوسع التي تستهدف المنطقة، وعلى رأسها مشروع تفتيت ما يُعرف تاريخياً بـ «سورية الكبرى».

غزة.. عقدة الجغرافيا والتاريخ

غزة جغرافياً هي بوابة فلسطين نحو سيناء، وتاريخياً هي بوابة الشام نحو مصر. هذا الموقع جعلها عقدة استراتيجية يستحيل تجاوزها في أي مشروع لإعادة رسم الخرائط. لذلك كان من الطبيعي أن تتحول إلى محور استنزاف دائم: حصار، حروب متكررة، محاولات للتركيع عبر التجويع أو الإعمار المشروط. كما أن السيطرة على غزة بالنسبة لإسرائيل لا تعني فقط كسر آخر بؤرة مقاومة، بل أيضاً إغلاق الباب أمام أي ربط استراتيجي بين فلسطين وعمقها العربي الطبيعي في بلاد الشام ومصر.

مشروع التفتيت الكبير

فكرة «سورية الكبرى» التي جسدت حلم وحدة بلاد الشام في بدايات القرن العشرين، تحوّلت في أجندات القوى الاستعمارية إلى «سورية المفككة».. كل حرب، وكل نزاع داخلي، وكل حصار اقتصادي في المنطقة، يصب في اتجاه تفتيت المجال الجغرافي والإنساني الذي كان يشكّل وحدة طبيعية.

إسرائيل والغرب عملا  ـ وما يزالان ـ  على تحويل هذا المجال من فضاء موحّد إلى فسيفساء متناحرة:

ـ دول طائفية ومذهبية متنازعة.

ـ كيانات ضعيفة تتغذى على الدعم الخارجي للبقاء.

ـ حدود مصطنعة تُستخدم كسلاح سياسي وأمني.

في هذا السياق، تصبح غزة «مفصلية»: إذا سقطت أو خضعت، تتحول إلى مجرد «جيب إداري» منزوع الروح، ما يعني أن المشروع الأوسع  ـ مشروع التفتيت ـ  قطع شوطاً إضافياً.

الرابط بين غزة وسوريا ولبنان

ما يجري في غزة لا يمكن فصله عن سوريا ولبنان.. ثمة رابط جغرافي ـ سياسي واضح: إخضاع غزة يعني عملياً عزل فلسطين عن عمقها السوري ـ اللبناني، وتحويلها إلى جزيرة محاصرة. وما يُمارس في غزة من حصار وتجويع وتدمير هو تجربة عملية لما يُراد أن يستمر في سوريا ولبنان والعراق: مجتمعات مرهقة، دول ضعيفة، نزاعات داخلية تستهلك الطاقات بعيداً عن الصراع المركزي مع إسرائيل.

مواقف اللاعبين

دمشق كانت ترى في غزة خط الدفاع الأول عن عمقها الاستراتيجي، فكل محاولة لتصفية القطاع هي بالضرورة خطوة على طريق تقويض المشرق العربي كله. أما اليوم دمشق نفسها منهكة بعد كل الحروب الداخلية التي حصلت في سورية.

أنقرة توظف غزة كورقة ضغط إقليمية، وتدرك أن إقصاءها من الملف يعني خسارة إحدى أبرز أدوات نفوذها في الشرق الأوسط.

إسرائيل والغرب ينظران إلى غزة بوصفها «شوكة» لا بد من كسرها أو على الأقل تحييدها، كي تبقى المنطقة العربية منشغلة بخلافاتها الداخلية بدلاً من قضيتها المركزية.

ختاماً.. السيطرة على غزة ليست هدفاً بحد ذاته، بل جزء من مشروع أكبر لإعادة تفكيك الشرق العربي وإضعافه. وإذا كانت «سورية الكبرى» قد تراجعت منذ عقود، فإن الحروب والصراعات الراهنة تعيد استدعاءها بشكل مقلوب: لا لتكون وحدة جغرافية ـ سياسية، بل لتصبح عنواناً لمخطط تقسيم طويل الأمد.إن بقاء غزة صامدة، رغم الجراح، هو أكثر من مجرد صمود محلي؛ إنه رسالة بأن مشروع التفتيت ليس قدراً، وأن قلب المشرق العربي ما يزال قادراً على النبض، ولو تحت الركام.

سامي زرقة