لبنان جبران.. أو كيان على طريق الزوال؟

قبل أكثر من مئة سنة كتب جبران خليل جبران رسالة وضع فيها محدّدات الولاء والانتماء ببلاغته وأسلوبه الفريد المصقول بالرؤى الفلسفية والأبعاد الإنسانية وعصارة اللغة الفذة حيث قال: “أنا لبناني ولي فخر بذلك .ولست بعثماني ولي فخر بذلك أيضًا. لي وطن أعتز بمحاسنه، ولي أمّة أتباهى بمآتيها. وليس لي دولة أنتمي إليها وأحتمي بها.
أنا مسيحيٌ، ولي فخر بذلك. لكنني أهوى النبي العربي وأكبّر اسمَهُ، وأحبّ مجد الإسلام وأخشى زواله.
أنا شرقي، ولي فخر بذلك. ومهما أقصتني الأيام عن بلادي، أظلّ شرقيَّ الأخلاق سوريَّ الأميال، لبنانيَّ العواطف…”.
إنّ أزماتنا المتناسلة تكمن في تلك النظرية المخادعة التي يتوسّلها الطائفيون لتكريس الهيمنة على الجماعات القائمة بذاتها لذاتها الفئوية من أنّ المناخات الطائفية تعزز فكرة الإيمان الديني في حين تشكل الطائفية أكثر العوامل تدميرًا لهذا الإيمان وأكثر السلوكيات إساءة الى طهره وصفائه. فالدين بالتأكيد غير الطائفية وفي التاريخ القريب والبعيد نماذج حيّة عن أولئك الذين توسّلوا الدين ووظّفوه في حروب طاحنة دمويّة خدمة لمشاريع لا تمت بصلة لروح الشرائع السماوية .
وكم اعتمد التدخل الخارجي في لبنان على الطوائف والمذاهب كمنطلق لنشاطه، الأمر الذي جلب الويل على هذا البلد الذي عزّز الانقسام المجتمعي .
ولعلّ البعد والدعم الخارجي للطوائف والمذاهب هو الذي حقق ما نسميه التوازنات الطائفية. وقد عرف لبنان هذه المظاهر من تجربة جبل لبنان في نظام القائمقاميتين الى المتصرفية الى الانتداب مرورًا بالميثاق الوطني وصولًا الى اتفاق الطائف.
قد يسأل البعض في زماننا الراهن كيف ولماذا ساءت أحوالنا وانهارت مؤسساتنا الدستورية وأصيبت قطاعاتنا الحيوية بأعطاب قاتلة من الصحة الى التربية والكهرباء والمياه والنقد الوطني المسفوح على أعتاب السماسرة.
ويسأل كثيرون لماذا كل هذه العلل والاستعصاءات والانسداد في مقاربة القضايا والاستحقاقات الدستورية.
الجواب هو أنّنا نعيش في نظام محاط بالسدود والحواجز لا يقيم وزنًا للإنسان الفرد الحر بل يستمد مشروعيته وديمومته وفعاليته من فكرة الجماعات على مستوى الحقوق، وتحجب فكرة المواطنة عن سابق تصميم لتغدو الجماعات بما هي شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي تستحوذ الحقوق باعتساف بيِّن وجور على الإنسان الذي يخضع لمعايير التمييز والفرز والاستنساب .
لقد تحوّلت الجماعات الطائفية الى جواز مرور إلزامي، لا بل وسيط ثقيل الظل بين المواطن ودولته وقد يكون مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي الفيلسوف وعالم الاجتماع الكبير أنطون سعادة الرؤيوي بامتياز الاستشرافي الحصيف والوحيد الذي تحدّث عن الإنسان المجتمع الذي يتم تعريفه من خارج الأطر الطائفية والمذهبية كوسائط ثانوية بين الفرد والدولة وبذلك يكون قد حدد حقيقة أنّ أكبر أشكالياتنا هو الانسان الذي ينبغي أن تعاد صياغته بالانعتاق الكلي من القيود الفئوية شريطة أن يكون محكومًا بعقل مدني لا عقل لاهوتي، عندها بإمكاننا الانتقال الى وطن حقيقي لا كونفدرالية طوائف.
إنّ ما يشهده لبنان اليوم من انعدام الحلول لمشاكله السياسية والاقتصادية هو نتاج تلك (الترقيعة) المسماة (صيغة) يجري تجميلها بمساحيق نشطة من التسويات والإجراءات التخديرية الظرفية كلما أغلقت السبل وانعدمت وسائط التواصل الايجابي بين المكونات.
وما نعيشه اليوم يشكل المنعطف الأخطر و آخر جولة من جولات الزيف المشترك والغش المشترك والفساد المشترك المستولد في كنف نظام الجماعات الطائفية.
لبنان الذي كان مذ قام الكيان انتهى والصيغة التي حكمت البلد القائمة على تحويل الدولة وأجهزتها الى عقارات مطوبة لهذه الجماعة وتلك ثبت انها استنفدت وباتت غير صالحة للاستهلاك الممارساتي كنظام سياسي وإداري بعد أن جف ضرع الدولة المنهوبة مواردها المثقوبة خزائنها الموزعة على الكيانات الطائفية والمذهبية مغانم وحصص.
إنّ ما يمر به لبنان اليوم هو الهزيع الأخير من الليل فإما الإصلاح السياسي الذي ينطلق من اجتثاث النظام الطائفي من جذوره وبناء حكم مدني يطمئن الجماعات ويقيم وزنًا للإنسان الخالي من لوثة الطائفية والمذهبية او الاستنقاع الأبدي في وحل الأزمات والصراعات .
أكثر من ذلك لبنان ميشال شيحا صار نبعه الفلسفي شحيحًا حيث التبدل الجوهري في وظيفة الكيان اللبناني يحتم إعادة تعريفه وتحديد وظيفته في هذا الإقليم الملتهب سواء من خلال عقد اجتماعي جديد ودولة مدنية قوامها الإنسان المواطن المشدود بولائه لوطنه الموصول مباشرة مع دولته لا من خلال المكون الذي ينتمي اليه.
أو اعادة لصق الجغرافيا اللبنانية بالجغرافيا الأم وتجاوز حدود التجزئة التي تقامها الاستعمار لسلبنا الاستقرار.
خياران يشكلان خروجًا من عنق زجاجة هذا الاستقطاب التنابذي العقيم الذي سيأخذنا الى مزيد من الانهيارات على شتى الصعد وتسعير للخطاب الطائفي المنغمس مجددُا بأفكار التقسيم والفدرلة وسواها من المشاريع التي تعد في أووقة ( البيت الاسود) حيث الحديث عن معازل ومناطق آمنة واستهداف علني وقح للمقاومة وبيئتها والمؤمنين بخيارها كأداة تحرر وطني وفي ظل حصار أميركي متوحش ظالم يمنع عن بلدنا المساعدات والهبات والعروض التنموية الانقاذية لقطاعات مختلفة.
هذان الخياران وحدهما السبيل الى وطن الإنسان، وطن جبران خليل جبران، وسوى ذلك إمعان في الغوص في بحور الضلال والتيه والتدمير الذاتي وضياع الوطن.

مفيد سرحال باحث في الشؤون السياسية