الانهيار الحقيقي.. تربوي

الانهيار الحقيقي.. تربوي

هو العام الاستثنائي الرابع في لبنان على كافّة الأصعدة، وخاصّة على الصعيد التربوي، ففي تشرين ٢٠١٩ انطلقت تحرّكات في كافّة المناطق، وأقفلت الطرقات، وتزعزع الوضع الأمني، الأمر الذي أدّى إلى إغلاق المدارس لفترة طويلة، وما كاد العام الدراسي يلتقط أنفاسه، حتّى وصلنا وباء كورونا، فأقفلت المدارس أبوابها منذ نهاية شهر شباط، وحاول المعلّمون استكمال الدروس عن طريق “الأونلاين” وسط تخبّط كبير، فأغلب المدارس في لبنان غير مجهّزة ولم يخضع أساتذتها لدورات تدريب على استعمال وسائل التكنولوجيا اللازمة لإعطاء الدروس عن بعد.
بعدها بعام، بقيت المدارس مقفلة، وتمّ اللجوء للتعليم عن بعد، وأعطيت الدروس عبر تطبيقات مخصّصة لهذا الغرض، وسط شبه جهل من الأساتذة والمتعلّمين باستعمال هذه الوسائل. يومها تمّ شرح ما أمكن مع الكثير من الاختصار والحذف.
العام التالي، فتحت المدارس أبوابها، لكنّ وباءً آخر كان ينتشر في لبنان، وكان أشدّ وطأة من الفيروس، ألا وهو تدهور قيمة العملة الوطنيّة وما رافقه من غلاء معيشي، حينها أقفلت المدارس الرسميّة عامّة أبوابها بسبب إضراب الأساتذة اعتراضًا على رواتبهم، وبالمقابل اضطرت العديد من المدارس الأخرى للإقفال لأسابيع طويلة بسبب انتشار وباء كورونا فيها، لكن رغم ذلك أصرّ وزير التربية على إقامة الإمتحانات الرسميّة، فأصدر أواخر العام تعديلًا على المناهج وأجرى امتحانات بدروس قليلة وبمواد اختياريّة.
هذا العام يبدو الوضع التربوي أكثر بؤسًا، فمع وصول سعر صرف الدولار إلى أكثر من ٧٥ ألف ليرة، ما زال راتب الأساتذة كما كان، مع بعض الحوافز التي يتقاضونها شهرًا وتغيب أشهر، وفاقت أيام إضراب هذا العام أيّام سابقه، وكلّ المحاولات ترتطم بحائط مسدود، ووزير التربية ينادي الأساتذة للعودة بهدف إجراء “الامتحانات الرسميّة”.
أمام هذا المشهد القاتم للوضع التربوي في لبنان، لا بدّ من طرح بعض الأسئلة “التربويّة” المشروعة.
أوّلها يكون حول مصير تلامذة اليوم في المستقبل، وهم لم يحصّلوا جميع الكفايات والمعلومات اللازمة لاستكمال مشوارهم العلمي، فالعام الدراسي لم يُستكمل طوال أربع سنوات، ويسابق الأساتذة الوقت لتعويض ما فات من دروس، وهو أمر شبه مستحيل خاصّة في ظلّ “الحشو” الذّي تعاني منه المناهج.
السؤال الثاني الذي يطرح نفسه هو عن هدف التعليم في لبنان، فامتحانات ببضعة دروس وبمواد اختيارية، ودعوات الوزير المتكررة لفك الإضراب من أجل إجراء الامتحانات، يجعلنا نندهش أمام واقع تصوير التعلّم وكأنّه لهدف واحد وهو “النجاح في الامتحانات”.
لم يسأل أحد عن التحصيل العلمي وعن ما اكتسبه الطلّاب، كأنّ المطلوب فقط النجاح في الامتحانات. فيوم أقفلت المدارس لأكثر من نصف عام كان قرار الوزير بترفيع جميع التلامذة، لم يفكّر بأنّ بعضهم فاتته معلومات أساسيّة لاستكمال مشواره العلمي، وأنّ في ترفيعه ظلم له لا خدمة، وأنّه سيعاني في سنواته المقبلة. وفي العام الماضي كان الهمّ الوحيد إجراء الامتحانات، لم يسأل أي مسؤول تربوي عن ما حصّله وما لم يحصّله التلامذة، لم يعر أحد أيّ اهتمام لحقيقة تدهور المستوى العلمي، فرحوا بنسبة نجاح عالية وتناسوا أنّها “وهميّة”.
أمّا الوضع الحالي، فهو يبشّر يتكرار ما حدث في العام السابق، فإذا ما رضخ الأساتذة وأجريت الامتحانات، فهي لن تختلف عن سابقتها، دروس قليلة والهدف نجاح وهمي يقابله فشل تربوي.
أربع سنوات من التعذيب بحقّ العلم في لبنان، أربع سنوات لم تستدعِ بعد أيّ إجراء استثنائي، أربع سنوات ضائعة من عمر أبنائنا، أربع سنوات والمسؤولون يسرقون من تلامذة لبنان العلم والمعلومات، أربع سنوات و”الخير لقدّام”، أربع سنوات ولم نسمع بعد عن خطوة استثنائية لتصحيح وتعديل المناهج بغية تعويض ما فات تلامذتنا، أربع سنوات ولبنان يمعن بجلد أساتذته وتلامذته.
وإذا ما أردتم تدمير وطن، فلتقضوا على العلم فيه.

ريتا الصّيّاح