أضواء على تاريخ اليهود – الحلقة الثالثة

وهنا نواجه السؤال التالي هل الديانة اليهودية ديانة توحيدية؟ وهل هي الديانة التوحيدية الأولى والتي استقت منها الديانتان المسيحية والمحمدية الكثير من المعتقدات؟ وجوابا على هذا السؤال نقول بأن الديانة اليهودية ليست توحيدية، بل تفريديه كما يقول الدكتور خزعل الماجدي، بمعنى أن اليهود وحدوا عبادتهم لله واحد، ولكنهم تفردوا بعبادة هذا الله، وهذا ما نقضه كل من يسوع ومحمد إذ توجها برسالتيهما إلى جميع الناس. يسوع أرسل تلاميذه ليكرزوا ويبشروا بالتعاليم الجديدة المحيية بين كل الشعوب، وهكذا فعل محمد، فكثيرة هي الآيات التي تبدأ بــ يا أيها المؤمنون ولم يقل يا أيها المسلمون، بل هذا ما فعله يهوه فكل كلمه موجهة لبني إسرائيل. أما إذا تطرقنا إلى المضمون لوجدنا الفرق شاسع، وهذا ما دفع يسوع إلى إعطاء مثلين يؤكد فيهما على الفارق، الأول عندما قال بعدم جواز دمج الخمرة الجديدة بالخمرة العتيقة فتفسد، فهل كان يعني حرفيا الخمر أم كانت هذه استعارة وتشبيه؟ والمثل الثاني عندما قال بأنه مهما حاولنا ترقيع الثوب القديم فسيظل قديما فهل كان يعني فعلا الثوب أم التعاليم؟

لقد استعمل كاتب التوراة في بداية سفر التكوين كلمة الرب للدلالة على الله، ومع يعقوب أصبح اسمه إيل، إذ إن يعقوب كان قد ولد لاسحق في أرض كنعان الذي كان الشعب فيها، أي الكنعانيون الذين عرفوا التوحيد من خلال إيمانهم بإيل. ولكن ما أن أوغل كاتب التوراة في قصته مشددا على بني إسرائيل كشعب خاص، له إله خاص به، حتى غير الكاتب اسم هذا ال يهوه.  « ثم كلم موسى وقال له أنا الرب، وأنا ظهرت لإبراهيم وإسحق ويعقوب بأني الله القادر على كل شيء. وأما بإسمي يهوه فلم أعرف عندهم« خروج .4 ـ 2:6 وكثير من الدراسين اليوم يؤكدون أن يهوه هو أحد آلهة كنعان أيضا، سطا عليه كاتب التوراة واعتبره إلها خاصا للعبرانيين وقول هذا الله ما شاء من مخيلته مستفيدا من تجارب الشعوب التي احتك بها والتي كانت قد اتخذت آلهة فرعية أوكلت إليها مهمة الوقوف إلى جانبها خاصة في مواجهتها مع الأعداء. وبعد ذلك أصبح هذا الله إلها خاصا بالعبرانيين، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن النسخة العبرية من التوراة تذكر دائما يهوه كإله لبني إسرائيل وليس، أما الترجمة العربية فقلبت في معظم الحيان كلمة يهوه إلى الله أو الرب للإيحاء بأن اليهود يعبدون الاله ذاته الذي يعبده بقية البشر. نقرأ من سفر الخروج: »وقال أيضا لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل يهوه إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب أرسلني إليكم… فإذا سمعوا لقولك تدخل أنت وشيوخ بني إسرائيل إلى ملك مصر وتقولون له الرب إله العبرانيين التقانا» خروج .18 ـ 15:3 وإذا ما محصنا بهذا الكلام نجد هنا أن الرب الذي أصبح يدعًى يهوه لم يعد إله الكون والناس أجمعين، بل قزمه كاتب التوراة ليصبح إلها خاصا ببني إسرائيل. وكل أنبياء إسرائيل الذين ورد ذكرهم في التوراة لم يتركوا لنا مجال للشك بأنهم استأثروا بهذا الله الذي تحول لاحقا إلى إله حرب قبلي يسير أمام شعبه لدحر أعدائه والقضاء عليهم ليسهل لهم الاستيلاء علً أرضهم ومدنهم. وبهذا يكون اليهود قد تخلوا عن الاعتقاد بإله واحد لصالح الاعتقاد بآلهة مختلفة، إله واحد لهم، نعم، ولكن هذا الله يتقاسم السلطة الكونية مع آلهة الشعوب الأخرى، فأين يكمن التوحيد انطلاقا من هذا المفهوم؟ لقد وقعوا ليس فقط بالازدواجية، بل تجاوزوها إلى تعددية الآلهة، وبذلك لا يمكن اعتبار اليهودية ديانة توحيدية، وبالطبع هي ليست الديانة التوحيدية الأولى. ومن يقرأ التوراة بوعي عقلاني لا يمكن إلا وأن يدرك هذه الحقيقة الواضحة، إذ كيف يمكن أن نفسر الجملة التي تكررت دائما في سفر الخروج وما بعده من أسفار، أعني جملة: «هكذا قال الرب إله إسرائيل» خروج 27:32، وكلم الرب موسى قائلا: «كلم بني إسرائيل»... لاويين .28:7 إن الشريعة التي أعطاها يهوه لموسى أكد له في كل جملة أنها فقط لبني إسرائيل.

اليهود هم أبعد الناس عن التوحيد، بل هم مشركون. تقول الدكتورة ريما نجم بجاني، في رأي لها تصدر كتاب الدكتور نسيم جوزيف شلهوب، ما يلي: « واحد لا شريك له، وهو للبشرية جمعاء أب، أما في الفكر اليهودي وأديباته الدينية، فالله وحده (أي لشعب إسرائيل (، وللأمم الأخرى آلهة وأصنام.«… لقد عرف المصريون القدماء التوحيد على يد أخناتون الذي تتحدث الدراسات أنه وصل إليه عن طريق والدته وجدته السوريتين. يقول ويل ديورانت في موسوعته (قصة الحضارة:( «ويرى أخناتون أن إلهه رب الأمم كلها، بل إنه في مديحه يذكر قبل مصر غيرها من البلد التي يوليها الله عنايته. ما أعظم الفرق بين هذا وبين العهد القديم عهد آلهة القبائل.» وكذلك فعل الصينيون فقد ورد في مجموعة (الديانات في الماضي والحاضر (ما مفاده بأن أهل الصين القدماء آمنوا« بوجود حاكم أعلى واحد فوق كل الأرواح وفوق كل الناس… هو القوة العليا المسيطرة على العالم»، وكذلك فعل الزرادشتيون في بلد فارس القديمة حيث يقول المرجع الديني الأعلى للزراد شتيين في إيران السيد رستم شهرزاي: «نحن نعتقد أن نبينا زرادشت كما ونحن نعتقد بوحدانية فلا نعبد غيره»، وزرادشت ظهر في منتصف القرن السابع قبل الميلاد، أي قبل تدوين التوراة بمئتي سنة. من هنا نرى أن معظم الشعوب القديمة عرفت التوحيد بشكل أو بآخر، وأطلقت عليه أسماء مختلفة حسب لغاتها، أما بنو إسرائيل فبالإضافة إلى أنهم غيروا اسم الرب الذي ابتدأ به سفر التكوين ليصبح يهوه أحيانا ورب الجنود أحيانا، فإن صفات هذا الله لا تتلاءم مع صفات رب الكون الواحد الذي يؤمن به معظم البشر اليوم. فالله في المسيحية هو محبة، وتسامح، وغفران، وعدل، كذلك هو في المحمدية، أما في اليهودية فهو إلهه منتقم حتى أنه انتقم من موسى نفسه، لأنه قرر بأن موسى قد خانه لأنه لم يقدسه في وسط بني إسرائيل، )تثنية (51:22، وهو إله يغير رأيه ويقبل المساومة كما حصل بينه وبين إبراهيم عندما قرر الانتقام من سدوم وعمورة، ويندم: «فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه» )خروج (14:32 ومن سفر صموئيل الثاني نقرأ: فجعل الرب وبء في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد فمات من الشعب من دان إلى بئر سبع وسبعون ألف رجل «فندم الرب عن الشر وقال للملك المهلك الشعب كفًى»، ويتعب كما جاء في تكوين: »وفرغ  في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح«… وهذا يعني أنه تعب لكي يستريح، فهل هذه هي صفات الكلي القدرة الذي نعبد. والأسوأ من كل هذا فهو إله متعطش دائما لرائحة الدم. جاء في سفر التثنية الصحاح الرابع ما يلي: »ان الرب إلهك هو نار آكلة إله غيور« 24:4، » فاعلم اليوم أن الرب إلهك هو العابر أمامك نارا آكلة« تثنية.3:9 هذا الله، المختلف معنى ومضمونا مع الواحد الذي يعبده بقية المؤمنين، لا يزال حتى اليوم يلهم قادة إسرائيل بقتل الأبرياء من شعبنا، ويعطيهم الحجة الالهية غير القابلة للنقاش باستمرار السيطرة على فلسطين ومحاولة التوسع لإقامة إسرائيل الكبرى تحقيقا للوعد الالهي المزعوم. ويحاول البعض القول بأن هذه التوراة التي بين أيدينا ليست التوراة الأصلية. وكثيرة هي الأصوات التي ارتفعت قائلة بأن ما تم اكتشافه في قمران قرب البحر الميت هو لفائف تشكل التوراة البديلة لكنني لم أجد كبير فرق بين النسختين، بل أن التركيز في الاثنتين ينصب فقط على بني إسرائيل وإلههم الخاص. بالإضافة إلى ذلك أقول بأنه ما لم يعثر المنقبون على نسخة مخالفة كليا للنسخة المعتمدة حاليا في كل اللغات فنحن مضطرون لاعتماد النسخة التي بين أيدينا والتي استندت إليها ومنها اقتبست الأمثلة.

وجدي المصري ـ الحلقة الثالثة