في أجواء الاضطراب والفوضى التي يصنعها الغرب الأميركي وحلفاؤه الإقليميون بالمصائر البشرية، تكشف حروب الطاقة من جنوب القوقاز (ممر زنغزور) وحتى المشرق العربي (ممر داؤود) أنها ستكون بوابة للتحكم بالعالم، وقد كشفت الحرب الروسية الأوكرانية المباشرة، ومن خلفها الحرب الباردة الجديدة، مدى تزييف الوعي الذي اتبعته الولايات الأميركية وحلفاءها من الدول الغربية، ما أفرز خلطاً في المشاهد يصعب فرزها لفحصها وتحليلها، وهدف هذا الخلط المتعمّد تضليل وتزييف الوعي الذي أعشى الكثير من العقول عن رؤية حقيقة ما يجري على الأرض، في تداخلٍ بين خرائط الطرق والتحالفات العسكرية، وبين المصالح الاقتصادية والصراعات الإقليمية.
وفي تطوّر لافت في منطقة جنوب القوقاز، وقّعت أرمينيا وأذربيجان (8/8/2025)، في حفل رعاه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في البيت الأبيض، اتفاق سلام، نتج منه خصوصاً إنشاء ممرّ مهمّ للنقل، سيُطلق عليه اسم «TRIPP» (طريق ترامب الدولي للسلام والازدهار). وهذا الطريق البالغ طوله 32 كيلومتراً، والمعروف بـ «ممرّ زنغزور»، سيربط جمهورية أذربيجان عن طريق أرمينيا، بمنطقة نخجوان ذات الحكم الذاتي، والتي تُعدّ جزءاً من الأراضي الأذربيجانية، ما سيشكّل تحدّياً للدورَين الإيراني والروسي في تلك المنطقة. وبدلاً من كونه ممراً لوجستياً لتنشيط حركة التجارة، تحوّل بسرعة إلى بؤرة للتجاذب بين القوى الكبرى.
وفي موقف رافض، أعلن كبير مستشاري المرشد الأعلى الإيراني، علي أكبر ولايتي، أن الجمهورية الإسلامية لن تسمح بإنشاء «ممرّ زنغزور» بين أذربيجان وأرمينيا بمشاركة الولايات المتحدة، لأنه سيحوّل الأطلسي إلى ثعبان يقبع بين إيران وروسيا.
وتشير تقديرات إلى أن مشروع «ممر زنغزور» قد يسهم في زيادة صادرات باكو غير النفطية بنحو 710 ملايين دولار سنوياً، إلى جانب تقليص كلفة النقل التجاري إلى تركيا بمسافة تقارب 342 كيلومتراً. في المقابل، تبدو المسألة أكثر تعقيداً بالنسبة لأرمينيا، التي تجد نفسها الحلقة الأضعف في صراع الممرات الموسومة بالتحالفات الإقليمية.
وكانت طهران قد أفشلت في وقت سابق مشروع «ممر زنغزور» رداً على مطالبة تركيا لها بدعم إنشائه، إلا أنه عاد إلى الواجهة بإعلان السفير الأميركي لدى أنقرة توم باراك، عن مقترح جديد تقوده بلاده يقضي بأن تتولى شركة لوجستية أميركية إدارة الممر، وهو ما أثار جملة من التساؤلات حول المواقف الإقليمية من هذا الطرح وتداعياته على توازنات جنوب القوقاز.
تتعامل إيران مع التحركات الأميركية باعتباره تصعيداً يستهدف إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية في جنوب القوقاز، ويهدد بإشعال مواجهة مباشرة بين المحور الأميركي ـ الإسرائيلي من جهة والمحور الصيني الروسي الإيراني من جهة أخرى في منطقة لطالما اعتبرتها طهران عمقها الإستراتيجي، خصوصاً وأن هدف «ممر زنغزور» تطويق النفوذ الإيراني والروسي في القوقاز، والتصدي لشبكة الممرات الدولية التي تربط طهران وبكين وموسكو، إضافة إلى أن هذا الطرح سيؤدي إلى توتر إقليمي يبرر استخدام القوة من قِبل بعض الأطراف، بما فيها إيران، لضمان أمنها القومي. في وقت لا يمكن التيقن فيه من أن حروب الطاقة الروسيّة الأطلسيّة ستنتهي مع خمود الجبهات العسكرية، بل قد تزداد حدة لتعود وتشعل جبهات عسكرية جديدة.
وقد تكون طروحات من هذا النوع مُبرّرة إلى حدّ كبير من قبل الولايات المتحدة وحلفاءها الدوليين والإقليميين، كون المنطقة تحتضن كياناً استعمارياً توسعياً مدعوماً منهم ويستدعي استمرار وجوده كلّ هذا الدمار الذي نشاهده، بالتوازي مع التركيب والتفكيك المستمرّ للكثير من الأنظمة السياسية، والتشظي الاجتماعي على المستويات الجغرافية والسياسية والمعرفية.
مَن يراجع خريطة الاحتياطي الغازي في العالم يمكنه أن يفهم طبيعة الصراع الدائر منذ سنوات في أماكن متفرقة، خاصة في منطقة المشرق العربي، وتحديداً على شواطئ هذا المشرق الممتدّ من حيفا، مروراً ببيروت واللاذقية، التي تمثل بؤرة الصراع الأكثر سخونة في المرحلة الراهنة.
أهمية موقع سوريا
فقد كشف انهيار الدولة السورية، في كانون الأول/ديسمبر 2024، عدداً من المشاريع المهمة للطاقة، من أجل ربط دول المنطقة التي أُهملت في الماضي بسبب الحرب المستمرة في سوريا. وعلى الرغم من أن هذه المشاريع كشفت طبيعة المواجهة بين المشروعين المضادين، الصهيوني والتركي والتنافس بين المشروعين في أن تصبح سوريا لهما «جسراً للطاقة» بين الشرق الأوسط وأوروبا، ومن هنا يجب أن نفهم موقع «السويداء» باعتباره في قلب المعادلات التجارية والأمنية لتركيا والكيان الصهيوني، ومن هذا المنطلق ستبقى هذه المنطقة بوابة محتملة ودائمة للحرب. ولذلك كثر الحديث عن ممر «داوود» الصهيوني وهو ممر بري استراتيجي يمتد من مرتفعات الجولان السوري المحتل، مروراً بجنوب سوريا ثم إلى منطقة التنف ومنها إلى شمال شرق سوريا وصولاً إلى إقليم كردستان في العراق. وهنا يجب أن نفهم سبب التحذير التركي لـ «قسد» من فتح أي ممر مع السويداء معتبراً أنه مطلب صهيوني (راجع تصريح المتحدث باسم حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، عمر تشليك ـ 7/8/2025).
وتسعى تركيا على ربط تواصلها بخط الغاز العربي في سوريا، ولكن أنقرة تدرك أن ذلك لن ينجح من دون الاتفاق مع الكيان الصهيوني. وكانت العاصمة التركية تحدثت منذ سقوط نظام الأسد، عن رغبة شديدة في إحياء مشروع إقامة خط للغاز من قطر، يمر عبر سوريا إلى أوروبا (كان من أسباب العدوان على سوريا). كما بدأت بدرس إمكان الارتباط بـ «خط الغاز العربي» من خلال الجزء الذي يمرّ في سوريا أيضاً. تجدر الإشارة إلى أنه تم افتتاح خط الغاز العربي في سنة 2003، وكانت تستخدمه، في الأساس، مصر لتصدير الغاز إلى شمال الأردن وسوريا.
وإذا تمكنت تركيا من الاتصال بخط الغاز العربي بقسمه السوري، فسيتمكن الكيان الصهيوني، نظرياً، من نقل الغاز إلى شمال تركيا، ومن هناك إلى أوروبا بصورة مباشرة، أو عبر صفقات مبادلة مع تركيا Swap Deal، ويمكن الافتراض أن مثل هذه الخطة لا يمكن أن تمضي قدماً من دون تحسُّن في العلاقات بين هذا الكيان وتركيا، بالإضافة إلى التطبيع بينه والنظام الجديد في دمشق. لكن لا حاجة إلى هذين السيناريو هين من أجل رؤية وصول الغاز من شواطئ فلسطين المحتلة إلى تركيا، لأن الكيان الصهيوني يبيع الغاز الطبيعي للأردن، أو مصر، بصفتهما «عملاء نهائيين»، وهاتان الدولتان تبيعان الغاز لتركيا. وهذا الترتيب موجود منذ أعوام. ومن هنا تظهر أهمية مشروعي «ممر داوود» و «ممر السلام» الصهيونيين ومشروع «طريق التنمية» التركي، وأهمية موقع سوريا في المعادلات التجارية والأمنية بالنسبة للطرفين.
بين المركز والقبائل
لم تكن صدفة هذ الحروب القائمة والمتنقلة على أرض المشرق العربي، كما لم تكن خافية على أحد، أنّ الحرب على هذا المشرق هي حلقة من الحلقات المتسلسلة المَنْويّ اتباعها في سبيل إنجاح المخطط الجهنمي بجعل «تل أبيب» المركز، والمشرق مجرد قبائل في ولايات، مذهبية وعرقية، تابعة للمركز اليهودي؛ وبذلك يتحقق مشروع الاستيلاء على سورية الطبيعية وتتكرّس «يهودية إسرائيل» من الفرات إلى النيل، على أن يكون هذا المشرق السوري المفتت بدوره، المركز في السيطرة على المحيطين، العربي والإقليمي. ولكن لا يزال المشروع الجهنمي هذا متعثر في الميادين العراقية والسورية واللبنانية والفلسطينية بسبب المواجهات التي تدور بين قوى المقاومة الرافضة لتلك المشاريع.
ولكن ماذا يمثّل الهلال السوري الخصيب بالنسبة لـ «إسرائيل» كي تختاره أميركا مسرحاً جديداً للصراع؟ وما أهمية موقع هذا «الهلال» الجيوسياسي في نظر «الجيوبوليتيكيين» وفي استراتيجيتَيْ روسيا وأميركا؟
هي حروب تشتعل من العدم، وغيوم حروب الغاز تتجمّع.. فهل سيهطل المطر شديداً؟

