الفن جوهرة الإنتاج

يقاس وجود الأمم (ذات الدولة)، وأهميتها ومكانتها ومنعتها، بالإنتاج، وتبقى هذه البلدان (بدولة أو من دونها) بلدان مدعوسة مفعوصة وملعوب بها، إذا لم يكن لديها إنتاج، وتبقى تلوب في تيارات اللاجدوى إلى ما شاء الله، مدعية أن لديها ما هو أهم من الإنتاج، وتدعي أن البلدان المنتجة تمنعها من تعميم وتداول هذا “الأهم”، غيرة وحسداً، أو فائض قوة تعتدي به علينا، مما يجبر هذه البلدان على إنتاج وحيد هو المظلومية، التي تنتظر التمكين للانتقام، الذي لا علاقة له بأي نوع من أنواع الإنتاج، أو التحفيز عليه.

والإنتاج كما هو معروف، ومتعارف عليه، هو صنع ما هو مفيد لهذه الأمة أو تلك من أجل الشبع والمنعة، وذلك بإجماع وتكليف من الجمهور المؤلف من أعضاء المجتمع، وهذا ما تقوم بسببه الدولة الحديثة، التي لا مجال للمواربة أو التشبيه أو التزوير في بنيتها، لأن النتائج القريبة والبعيدة سوف تُعلن كويل وهزيمة وهوان كل مواربة أو تزوير أو حتى تأجيل استحقاقاتها، حيث من غير الممكن أن تكون هناك دوله أصلية دونما كهرباء (مثلاً) كافية تغطي الحاجة في الصناعة والزراعة و الإعلام ..إلخ، وكافة أفعال التمدن المؤدية إلى الإنتاج، ليبدو الأمر، تماماً مثل بناء برج طابقي دون مصاعد، بسبب نقص الكهرباء فتتهاوى الجدوى منه ليصبح عبئاً، بدلاً من أن يكون حلاً.

والفن هو الإنتاج الأسمى، لأية ثقافة في أي كيان، ولهذا السبب يتم الكلام عن العلوم في تحويلها إلى معرفة على أنها فنٌ، مثل فن السياسة وفن الحرب، بما يتعالى على العلوم نفسها، فهو عصارة المعرفة الإنسانية، وهو ما يبقى من حضارة أية مجموعة بشرية حازت على أي قدر من الثقافة والتحضر، فالمجموعات التاريخية السابقة لم تترك لنا إلا الفن، كمنتجات عابرة للزمن، ومعبرة عن الحيوية الثقافية لتلك المجموعات في زمن مقدرتها على الإنتاج، كالعمارة والنحت والتصوير والموسيقا والرقص، كخلاصات معرفية يتكثف فيها الحضور البشري بصفته المبدعة، التي تتجاوز الرؤية التبسيطية للأشياء، فمقاربة القيم العليا، المعروفة بالحق والخير والجمال، لا يتم بعمليات شرح تبسيطية توازي الارتجال المعرفي، بل من التجربة الإنسانية العميقة للأفراد من ذوي المواهب والهمم، وعليه تبدو مراقبة الفنون وتحجيمها برسم حدود حولها، ما هو إلا تعبير عن عدم المقدرة على الإنتاج، ويتضمن عدم المقدرة على تحمل نتائج هذا الإنتاج، وفي هذا خراب عظيم لعملية الاكتفاء الذاتي، المؤدية إلى الاعتماد على الغير في تلبية حاجات الهوية، وهذا ما يؤدي إلى الاستلاب، ( وهذا ما سميّ في فترة سابقة “الغزو” الثقافي)، أو منع نضوج الهوية، أو إجهاضها بسبب إعاقة أو منع الإنتاج، إذ لا يمكن في جميع الأحوال ( في عالم الاتصالات أو من دونه) منع تسرب الفنون مهما كانت قواعد المنع صارمة، وفي تسربها هذا، لجم للإمكانيات المحلية التي تلبي احتياجاتها الذاتية، ومنها الحاجة إلى التعبير بالإبداع، فالفنان المبدع سوف يتسمم بإبداعه الممنوع، بالإضافة إلى حرمان المجموعة البشرية، من التوجه إلى قيم البشرية العليا وهي الحق والخير والجمال.

اليوم لا تستطيع أية مجموعة بشرية تريد التحضر، منع رؤية متحف الأرميتاج أو اللوفر..إلخ، ليس لإن فيها قدس أقداس الروح البشرية، بل لأن فيها ذاك الاعتزاز والفخر بالإنتاج، الذي يمثل روح المجموعة البشرية التي أنتجتها، بغض النظر عن أية قيمة إجرائية إن كانت نقداً، أو مجرد انتقاد يستوجب الرقابة والمنع، والتعبير الجمعي في طلب قمع الفنون مهما كانت متطرفة، ما هو إلا إقرار عن حالة تخلف تستحق التفكك والاهتراء والزوال، فالمجموعات التي لا تعرف كيف تربط رغيف الخبز بالفن، مجموعات تطالب بالجوع، ولا أظن أن على أي عاقل رشيد، أن يستجيب لطلبها، أو يخضع لضغطها، مهما كانت أكثريتها العددية واضحة، فالفن معبر إجباري للتحضر، الذي يعني تماماً الشبع والمنعة، مؤسسي الهوية بواسطة الإنتاج.

إن وضع الفن في جهة ثانوية، على أنه ليس من ضرورات الحياة، أو تثريبه، أو اقتراح بدائل عنه، هو محاولة للقعود عن الإنتاج، وبالتالي الوقوع في الفساد والعنف، فالفن عملية تربوية (مثل الدولة) كدور في المجتمع، وفي بحثه الذي لا ينتهي عن الحقيقة، هو حافز التفاعل الأول بين البشر والبيئة، التفاعل الذي يشكل الرؤية والرؤيا برعاية العقل، لحاضر الإنسان ومستقبله، مانعين بذلك ممارسة الاكتمال المعرفي، الذي يوقف التطور والارتقاء، للركون إلى إلى التجربة الإنسانية على ما فيها من ثراء المؤدي إلى الاختراع  (دون أن نناقش فكرة الاحتكاك الثقافي مع الجمال ونتائجه)، فالفن هو الإقدام على الإنتاج، في كافة صنوف المعرفة والعلم، وقمعه بأي إجراء صغير أو كبير بمبررات أو ذرائع، يعبر تماماً عن مستوى الداعي إلى القمع مسؤولاً فرداً كان أو جماعة، والتعامل مع الفن كما هو ضرورة حتى لو كان مختلفاً أو مخالفاً، فمكنوناته ستظهر السيء والجيد ( القاعد والمنتج) في هذه المجموعة البشرية أو تلك، وما مؤشر التخلف إلا معيار إنتاجي، تحاج فيه المجموعة البشرية لمساعدة الآخرين في مقابل استلابها، ومقاومة الاستلاب هو جوهر الفن.