فعلها توم براك، ومن على منصة القصر الجمهوري في بعبدا كانت الإهانة المجلجلة التي وجهها إلى الجسم الصحفي بأجمعه، والمفترض انه واجهة البلد، رغم ملاحظاتنا على أدوار البعض وسلوكهم الارتزاقي، والأنكى انهم صمتوا كما أهل القبور، لكن ترددات ما حصل على الرأي العام حركت نقابة الصحافة ونقابات أخرى على الاعتراض والمطالبة بالاعتذار.
فعلته المشينة هذه، إلى جانب انكشاف أمر المزاعم عن إنشاء منطقة اقتصادية، ما هي إلا المنطقة العازلة التي تريدها دولة العدو، عطلت زيارته إلى الجنوب، يرافقه وفد الكونغرس الأميركي المتصهين، والذي يزور لبنان للمزيد من الضغوط على السلطة اللبنانية ومحاصرتها بعناوين اقتصادية مغرية للبعض، يقصد نزع السلاح وتأكيد حصرية السلاح مع الجيش.
وتعطلت الزيارة بوقفة الجنوبيين الذين اعتصموا رافضين للزيارة، معلنين رفضهم أيه وعود لا تكرس حقهم بأشغال بيوتهم وإعمار ما تهدم وضمانات تحفظ أرضهم من الاعتداءات وكان الصوت واحداً “لن تمروا على أرضنا الطاهرة بدم أبنائنا” وهيهات منا الذلة، كانت كما الدوي الصاخب.
يدرك الجنوبيون منذ تم الإعلان عن إنشاء هذه المنطقة زيف المزاعم الاقتصادية، بل انها المنطقة العازلة بقصد حماية الحدود الشمالية لدولة العدو.
علما أن هذا العرض يترافق مع حماس وهرولة إلى تنفيذ المطالب الأميركية من قبل رئيس الحكومة نواف سلام، كما ذكرت مصادر المطلعين على الأجواء، مما يعيد إلى الذاكرة سلوك جدّه البيك علي سلام وقد باع أرضه داخل فلسطين، للصندوق القومي اليهودي، في أربعينات القرن الماضي، مع إقطاعيين آخرين مثل آل بسترس وال تويني … الخ. لتستنهض الذاكرة الجمعية، صور تهجير الفلسطينيين من أرضهم وبيوتهم وأرزاقهم، بقصد إنشاء دولة الاحتلال زمن نكبة عام 1948، ويومها هجروا إلى جنوب لبنان وبلداته التي احتضنتهم مثل يارون وبنت جبيل وكفركلا والعديسة والناقورة وصور، كما تروي الذكريات المدوّنة لأبناء فلسطين، ومن كتاب فؤاد شريدي حول “المحرقة الفلسطينية” يمكن متابعة قصة تهجيرهم بعد المجازر المرتكبة، وهم عندما ملوا وعود العودة نقلتهم الأونروا إلى مخيمات استحدثت في الجنوب صيدا وبيروت والشمال وكذلك البقاع.
مخذولين من الوعود العربية والدولية، حيث باتوا مهجرين مشتتين في أصقاع العالم إلى الآن دون أن تبالي دولة الاحتلال بالقرار 181 الملزم لها بإعادتهم.
اليوم يبدو غائباً عن بال السلطة السياسية في لبنان أن أهل جبل عامل، يرفضون التنازل عن ارض أجدادهم التي سقاها الأحفاد من دمهم، وسيستمرون رغم عظم التضحيات. فهم بعد ما نسوا ما حل بأهل فلسطين.
كما وانهم يدركون أن سياسة رسم الخرائط الجارية للمنطقة، نحت عناوين الازدهار المشبوه، ما هو إلا تكريس للمشروع اليهودي وأطماعه مع الأميركي بثروات البلاد، مستغلين السردية الدينية المزورة والمشوهة للتاريخ.
وها هي الخرائط تنجلي تباعاً، أعلنوا عن ريفييرا غزة اولاً، وها هم يعلنون عن منطقة ترامب الاقتصادية في جنوب لبنان، ويتابع العدو هيمنته على جبل الشيخ ومرتفعاته، وصولاً إلى القنيطرة ثم درعا والسويداء، وقد أعلن الشيباني (وزير خارجية دمشق) مؤخراً عن لقائه مع وفد إسرائيلي في باريس جرى فيه التفاهم على ممر انساني للسويداء.
هذا الممر سيكون المرحلة الأولى من ممر داوود، الذي تسعى اليه «إسرائيل» كإطار امني اقتصادي تريده للهيمنة على كامل سوريا الطبيعية، يصل من القنيطرة ودرعا إلى الأردن والتنف والبوكمال والحسكة ثم إلى أربيل والسليمانية منتهيا على الحدود العراقية التركية.
هذا المسار «الإسرائيلي» الذي يرى في الإقليم ساحة لتحقيق الطموحات لقادة العدو، يجعل المشاريع التي كانت مستحيلة الإنجاز، سهلة المنال اليوم، بعد سقوط دمشق وتوالي ضربات إفراغ الجيش الشامي من قدراته وقوته، تاركاً النظام في «سوريا» تتقاذفه الأطماع والمشاريع من الجنوب والشمال، وتحت مظلة الأميركي.
هذا الأميركي الذي يتفرج على احتراق كامل المنطقة، بصراع الاثنيات والطوائف، وحرب الإبادة بالتجويع والقتل لأهل غزة وتهاون وخنوع الأنظمة العربية، ضاق مجلس الأمن، ذرعاً من صمته فاعترف مؤخرا وان متأخرا، أن غزة تعيش المجاعة وفي لومه لنفسه على تفرجه عاجزا جاءت الإدانة “لإسرائيل” من أربعة عشر دولة، وامتناع الولايات المتحدة الأميركية عن التصويت.
رغم مرور عامين على الحرب لا يبدو أن العدو سيرتدع عن استكمال مهمته بابلغ مقتلة في التاريخ الحديث وتحت أنظار العالم، ولو سعى إلى إخفاء ارتكاباته، بقتل الإعلاميين وهم الشهود على فظاعاته وآخرهم كان آنس الشريف ثم مريم أبو دقة ومعهم آخرين.
كل هذا ويأتي من يقول للبنانيين أن واشنطن تريد تطبيقاً كاملاً لنزع سلاح المقاومة، وتريد من الجيش وحده أن يدافع عن لبنان أرضاً وشعباً دون أن تضمن امتناع العدو عن تنفيذ هجماته ولا أن تسلح الجيش فيما قادة العدو لا يوفرون فرصة إلا ويؤكدون رغبتهم بتحقيق حلمهم “بدولة إسرائيل الكبرى” ولبنان بمجمله جزء منها.
الثابت أن خطة الجيش اللبناني لتطبيق قرار الحكومة المزمع عرضها وإقرارها في مجلس الوزراء في 2 أيلول القادم والتي يمكن للمراقب أن يرى أن سلاح المقاومة الذي يتسلمه الجيش مصيره التدمير، وان الأميركي ليس مستعدا لتسليح الجيش دون موافقة العدو، الذي لا يزال يضع الشروط، دون إلزام نفسه لا بالانسحاب من مواقعه التي يحتلها، ولا بالكف عن خرق سيادة لبنان واستهداف من يشاء.
وهذا بحد ذاته توريط للجيش اللبناني، بأنهم يجعلون منه جيش الإنقاذ العربي بقيادة القاوقجي، الذي تخلفت الأنظمة العربية عن وعودها بدعمه، وأدى الامر إلى النكبة التي ما زلنا نعيشها اليوم.
المؤكد أن الأميركي الذي يرى نفسه سيد العالم اليوم في أحادية قطبية لم يشهدها العالم مطلقا، نسي أن للشعوب قدرات لا يمكن تخطيها، وابلغ الأمثلة حروبه هو مع فيتنام وكوبا وفنزويلا وايرلندا والعراق ودول عديدة أخرى وكذلك مقاومات أبرزها مقاومة شعبنا لاهم قواته، المارينز عام 83 في بيروت.
من واجبنا أن نذكره بمقاومة لبنان التي هزمت جيش العدو، العام 2000 والعام 2006 والقتال البطولي لهذا الشعب الذي لم ينهزم رغم فقدانه قادة المقاومة وما يزال يقف فوق الدمار في الجنوب ويرغم مبعوث أميركي وقح على المغادرة خائباً، هذا شعب لا تهزم إرادته. أن شعباً يسير جنب مقاومة بلاده لا يهزم.
نقول ونحن من مدرسة نؤكد أن القوة هي القول الفصل، وقد خبرنا هذا العدو وسنختبره دون وجل، أن على الدولة بأركانها كافة أن تثق بخيار شعبها وتكون معه صفاً واحداً وفي مواجهة واحدة تصنع الانتصار الأكيد

