كيف أصبحت الرواقية اليونانية استراتيجية سياسية رومانية؟
وُلدت الفلسفة الرواقية في اليونان القديمة، لكنها غيّرت القيادة الرومانية وتركَت أثراً دائماً في الأسس الأخلاقية والسياسية للحضارة الغربية.
عندما غزت روما القديمة بلاد اليونان واطلعت على أفكارهم الفلسفية، أصبحت الرواقية أكثر من مجرد حركة فكرية. فلقاء قوة روما الصاعدة مع الرواقية، وسط قسوة الغزو والحروب، أنتج بطريقة ما واحدة من أعمق التحولات الفلسفية في التاريخ.
أمضى الباحثون سنوات طويلة في مسألة تحليل كيف استطاعت مدرسة فكرية وُلدت في شوارع أثينا القديمة أن تعيد تشكيل قوة الإمبراطورية الرومانية، مع نتائج امتدت أصداؤها عبر أوروبا وما بعدها.
كيف دخلت الرواقية إلى المجتمع الروماني؟
لنتخيّل أننا نعيش في عام 155 ق.م، ونشاهد ثلاثة فلاسفة يونانيين يتجولون في شوارع روما بعد أن وصلوا كسفراء عن أثينا.
عندما فتح «ديوجين البابلي» فمه ليتحدث عن الفضيلة والواجب، امتلأ الجو بطاقة واضحة. سحر حديثه النخبة الرومانية التي أصغت بانبهار للرجل اليوناني. هؤلاء الشعوب التي هزمتها روما، والتي تحوّلت مدنها العظيمة إلى مقاطعات رومانية، كانوا يمتلكون شيئاً لم تستطع الجيوش الرومانية أن تستولي عليه: أسلوب تفكير في القوة يمنح معنى للفوضى السائدة في كل مكان.
أدرك «كاتو الأكبر» الخطر على الفور، فطالب بطرد الفلاسفة اليونانيين، في إشارة إلى حالة الذعر التي انتابته. إذ كيف يمكن لإمبراطورية بُنيت على أساس أن القوة والبطش يصنعان الحق أن تسمع فلسفة تدعو إلى أن القوة يجب أن تخدم الفضيلة وليس العكس؟ لقد كان ذلك أمراً مزعجاً بحق.
ما ينساه المعاصرون هو مدى توافق الرواقية مع قلق ومخاوف الرومان. فقد كانت الإمبراطورية تنمو بسرعة تفوق قدرة قادتها على الاستيعاب، وهي إمبراطورية ممتدة من البرتغال إلى سورية.
كانت المبادئ الرومانية القديمة من مثل:
الشرف الشخصي
الولاء العائلي
الواجب المدني
صالحة لما أطلق عليه نظام المدينة-الدولة، لكنها بدت بالية وغير كافية لإمبراطورية عالمية تضم شعوباً وثقافات وديانات متعددة تحت سلطة واحدة. وهنا قدّمت الرواقية للرومان شيئاً جديداً:
إطاراً كونيّاً لفهم العالم، وحكم الشعوب المختلفة، والمحافظة على الاتساق الأخلاقي.
كان أوائل المتأثرين بها، مثل «بانايتيوس»، رجالاً عمليين أرادوا حل مشكلات سياسية حقيقية. وعندما انضم بانايتيوس إلى «حلقة سكيبيو»، جلب معه فلسفة حيّة تساعد القادة الرومان على معالجة المعضلات الأخلاقية أثناء إدارتهم لإمبراطوريتهم الشاسعة.
تخيّلوا هؤلاء الناس يتناقشون عمّا إذا كان توسع روما مبرراً أخلاقياً أو خيانة لمبادئها القديمة.
ماركوس أوريليوس والإمبراطور الفيلسوف:
يُعد ماركوس أوريليوس أحد أشهر الأباطرة الرومان، ولسبب وجيه. كان رجلاً لم يرغب يوماً في أن يكون إمبراطوراً، وكان يفضّل حياة الفيلسوف الهادئة، لكنّه وجد نفسه مضطراً للتوازن بين الديناميكيات الهائلة للسلطة المطلقة على العالم المعروف.
تكشف مخطوطته الشهيرة «التأملات»، التي كتبها كرسائل شخصية لنفسه ولم يكن ينوي نشرها، أنه كان رجلاً يصارع التناقض الأساسي في موقعه: كيف يحافظ المرء على الخير وهو يملك السلطة ليفعل أي شيء حتى أبشع الأفعال؟
أثناء حروبه ضد القبائل على نهر الدانوب، نقرأ كلماته ونشعر بعزلته. كتب لنفسه: «تذكّر أن ما يزعجك قليل للغاية»، لكن التعب يطل بين السطور.
لم يكن هذا الهدوء البارد للفلسفة الأكاديمية، بل استناد أقوى رجل في الأرض إلى المبادئ الرواقية كطوق نجاة نفسي وسط الطاعون والحرب وضغط القرار الإمبراطوري. لقد أصبحت الرواقية اليونانية شريان حياة أنقذ الإمبراطور من الانهيار تحت وطأة مسؤوليات لا تُحتمل.
من الملهم أن نرى زعيماً منذ قرون بعيدة يأخذ مسؤولياته وعواقب قراراته الأخلاقية على محمل الجد. فعندما اجتاح «الطاعون الأنطوني» الإمبراطورية وقتل ربما ثلث سكانها، استند ماركوس أوريليوس إلى حكمه الرواقـي ليقرر المسار الصحيح. بقي في روما، ينظم جهود الإغاثة ويبيع ممتلكات القصر لتمويل برامج التعافي. لقد تحولت قاعدة الرواقية التي تقول إن القائد في خدمة الخير العام إلى أمر أخلاقي حتمي وجّه كل قراراته.
كما تجسّدت الرواقية في إصلاحاته القانونية. فقد استخدم سلطته المطلقة لا لمصلحته أو مصلحة خاصته، بل لحماية العبيد، وتوسيع حقوق النساء، وتلطيف قسوة النظام القانوني. ورغم أن هذه الإجراءات لم تكن شائعة بين النخبة الرومانية، إلا أن أوريليوس مضى فيها لأن الفلسفة الرواقية فرضتها وبوصلة ضميره ألزمته. وعندما كتب: «لقد وُلدنا لنعمل معاً»، كان يصف منهج حكم ظل حيّاً في كتب التاريخ.
الإرث والرؤية الحديثة:
عندما ننظر إلى السياسة الحديثة ـ من التضليل عبر وسائل التواصل، والولاءات القبلية، وعبادة الشخصيات، والسياسة الحزبية قد نتساءل: ماذا كان سيقول ماركوس أوريليوس عن كل هذا؟ وهل كان سيجد شيئاً من فلسفته القيادية في عالمنا السياسي اليوم؟
لقد شكّلت الرواقية اليونانية بعمق الفكر السياسي الغربي. مفهوم «القانون الطبيعي»، وفكرة أن القادة يجب أن يخدموا الخير العام لا مصالحهم الشخصية، والتأكيد على الفضيلة فوق الفعالية؛ كلها تعود إلى هذا المزيج المدهش من الفلسفة اليونانية والبراغماتية الرومانية. لكن يبدو أننا فقدنا الخيط في زمننا الحالي.
صحيح أن دورات القيادة الحديثة تُدرّس «مبادئ رواقية»، لكنها غالباً ما تسيء الفهم. فالأمر لا يقتصر على التحكم العاطفي أو إدارة الأزمات ـ رغم أن ماركوس أوريليوس برع فيهما ـ بل يتعلق بإعادة تعريف جوهر السلطة ولمن تُوجَّه. عندما كتب: «ما لا ينفع الخلية لا ينفع النحلة»، كان يصف رؤية أخلاقية تجعل الطموح الفردي خاضعاً للخير الجماعي، وهذا ما نفتقده اليوم بشدة.
وعلى ما يبدو فالأدلة الأثرية في أرجاء الإمبراطورية الرومانية السابقة؛ تُظهر كيف تسللت لغة الرواقية إلى الإدارة المحلية، حيث اقتبس الحكام ماركوس أوريليوس وأشادوا بالفضيلة وتحدثوا عن واجبهم تجاه الخير العام. لكن يبقى السؤال: هل كان ذلك إيماناً حقيقياً بالفلسفة أم مجرد خطاب سياسي؟ وكيف نفرّق بين قيادة رواقية أصيلة وأداء سياسي متصنّع؟
دلالات تأثير الرواقية على السياسة الرومانية:
المثير أن هذه الصراعات القديمة لا تزال حاضرة. فما زلنا نواجه الأسئلة نفسها: كيف نمارس السلطة بمسؤولية ونحافظ على النزاهة الأخلاقية في أنظمة تكافئ عكس ذلك؟
إن استمرار هذه التساؤلات بعد ألفي عام يعني أننا إما أننا لم نتعلم شيئاً، أو أن هذه ببساطة معضلات إنسانية أبدية لا فكاك منها.
ربما هذا هو الإرث الحقيقي للرواقية بعد تحولها من فلسفة يونانية إلى استراتيجية سياسية رومانية. لم يكن الهدف مجرد صناعة إداريين أفضل، بل إظهار أن حتى أقوى البشر يواجهون التحديات الأخلاقية ذاتها التي يواجهها الجميع. والفرق أن بعضهم، مثل ماركوس أوريليوس، اختار أن يواجهها علناً وبصدق وبالتزام حقيقي تجاه ما هو أعظم من ذاته وربما كان ذلك كافياً.
من أقوال ماركوس أوريليوس:
الآخر قريبك قي العقل ولا يرتكب الإثم إلا عن جهل منه بما هو خير إذن علمه أو احتمله!
ويقول أيضا:
تعلمت أن أحتمل المشاق و أكتفي بالقليل ، و أن أعمل بيدي و أن أنصرف إلى شأني و أترك ما لا يعنيني …

