من يدرك معنى الكلمة وأهميّتها في حياتنا وكان القدماء يقولون:
«كلمة بتهدّ وكلمة بتعمّر ».
الكلمة تقتلنا والكلمة تحيينا فكم من مرّة يلفظ الإنسان كلمة في الوقت والزمان غير المناسبين، فتشتعل المشاكل ويقوم الشجار، وكم من مرّة تصادفنا المتاعب بسبب كلمة تقع في غير مكانها أو بسبب استعمالها الخاطئ فيفهمها الطرف الآخر وكأنها إهانة فتشتعل المعركة ويدبّ الخلاف.
المصطلحات تتبدّل بحسب الأمكنة والأزمنة وكم من كلمة يقصد بها معنى معيّنا فتتحوّل إلى شرّ مطلق بسبب عدم فهم هذه المصطلحات على حقيقتها؛ فتختلط المعاني وتتبدّل المفاهيم من جيل إلى جيل.
في أواسط القرن الماضي عاد «المغترب الكريم» فضول إلى ربوع لبنان من المهجر من أميركا اللاتينية إلى ضيعته الوادعة التي تتناثر بيوتها على عدد من التلال الخضراء المكسوة بأشجار الصنوبر والسنديان والشوح.
كان فضول كما كلّ المغتربين ينوي اختيار عروس من الضيعة قبل أن يتجاوز الخمسين ويفوته قطار العمر وهو يقترب حثيثا من الكهولة، فيتزوّج ويعود سريعا إلى عمله ومصالحه في بلاد الاغتراب.
كان فضول صاحب ثروة كبيرة، وعلى الرغم من براعته في التجارة، كان بسيطا ويعيش على بركة من فطرته الأولى وتفتقر شخصيته إلى الإدراك الاجتماعي وحسن التصرف خاصة بين مواطنيه الذين يمتازون بما نسمّيه «الحربقة» وحب الإفساد والسخرية من الناس البسطاء.
غادر فضول لبنان وهو فتى ولم يختلط كثيراً بأبناء قريته ليتعرّف عن كثب على تقاليد وطباع سكانها ويتعلم كيف يحتاط من قفشاتهم ومزاحهم السمج.
وصل فضول إلى القرية وبدأ جولته على بيوت الصبايا العازبات، فيستقبل بالترحيب وهو العريس الثري (المقرش = الغني صاحب القروش) ونيّال يلي بدها تأخذ فضول فيكون بختها أبيض ونصيبها محرز!
بعد اللف والدوران على العرائس استقرّ رأي فضول على فتاة بارعة الجمال تدعى نجيبة وهي الوحيدة من كل بنات الضيعة التي لفتت انتباهه بسبب شعرها الأشقر الطويل وعينيها الزرقاوين وهي تشبه أمها البقاعية البيضاء الشقراء ونجيبة تلمع مثل ليرة الذهب كما يقولون في الضيعة، على الرغم من أن والدها كان شديد السمرة لكن بياضها على ما يبدو أخذته من أمّها.
وقع فضول بحب نجيبة على الفور وخلب بياض بشرتها لبّه، هو القادم من بلاد السانتوس في أمريكا الجنوبية حيث السحنة السمراء هي الغالبة، وصار يمضي معظم أوقاته بين إقامة مآدب لشبان الضيعة الطفيليين الذين لم يفارقوه، وبيت نجيبة تمهيداً للعرس المنشود ويوم الإكليل المنتظر وكانت نجيبة متضايقة من فضول على مضض لأنها لم تكن مقتنعة به كثيراً، فلم يعجبها لباسه ولا طريقة كلامه ولا سنّه و أكثر ما كرهت فيه عيونه الزائغة الفارغة التي تراقبها بشكل متواصل بنظرة الأبله المسلوب وتقول في سريرتها: يا دلّي كيف بدي آخذو هيدا مش بس من عمر بيي ومسطول كمان وتيابو من أيام نوح العمى شو( كحتي = بخيل ).
لكنّها قبلت بهذا الزواج طمعا بالمال والسفر والحياة الهانئة في كنف رجل ثري يؤمّن لها الرفاهيّة.
ذات يوم استوقف فضول أحد اقربائه وكان من النوع المستهتر الذي يحب الهزء وتركيب المقالب السمجة والعبث فقال له:
شو يا فضول بعد ما قلت شي قصيدة لنجيبة، عيب عليك يا شيخ الأصول بتقول، لازم تقول لها كم بيت من الشعر تقولها لهي المخلوقة حتى تشوف فيك البطل والفارس وإلا استسخفوك أهلها يا شيخ….
فطن فضول لتلك المسألة وقال في سريرته نعم فعلا يجب أن أقول لها قصيدة، على الأقل كم بيت شعر… وإلا سوف تنظر إليّ نجيبة نظرة احتقار واستخفاف.
أخذ المسكين يشحذ ذاكرته باحثا عن بقايا كلمات وأشعار من الماضي ممّا كان يسمعه من زجل وميجنا وعتابا وبعد أن استنفد ذاكرته وحكّ رأسه مرارا « نظم» لها هذه الأبيات الهزيلة الضعيفة والركيكة المضحكة:
حبيبتك يا نجيبة
وحبيت عيونك الزرقا
حبيت ركزتك الأديبة
الله شو مسلّم عليكي
وقت يلي خلقك هالقد
فتنة وبارعة ولبيبة
آخ يا نجيبة آخ قديشك
حلوة يا غريبة عجيبة!
لم يكن فضول يعلم أنه في لغة اللبناني اليومية في تلك الأيام يطلقون نعت عجيبة على كل من يولد وفيه نقص أو عيب خلقي أو تشوّه خاصة في الشكل والوجه وكانوا يقولون:
حرام هالولد خلقان عجيبة، عيونه «زوط» أي أنه أحول أو رأسه كبيرة كالبطيخة فيلقبونه بأبي بطيخة أو فمه مشوّه إلى آخره فيقال له «عحيبة ».
في اليوم التالي قصد فضول منزل حبيبته وبينما هو جالس في ديوان البيت الواسع على طرّاحة قرب عمود السقف أسمع فضول القصيدة لنجيبة، فهبّت غاضبة ونظرت إليه شذرا واستشاطت حنقا وغيظا وكانت النقطة التي فاض بها الوعاء وقد جاءتها هذه المسألة كفرصة سانحة، لتصب جام غضبها على فضول فاغتنمتها لتطرده من منزلها وأخذت تنزل عليه لعناتها وسخطها فقالت له:
انقبر ولاه أنا عجيبة ولاه
أنا أحلى بنت بالضيعة وكل الضيع حوالينا
شو هاي الكلمة عجيبة أمك يلي خلفتك عجيبة
إنت وحدك العجيبة…. يا ناقص يا كذا وكذا….
ودخلت أمّها على الخط أيضا لتساندها فأخذت تصرخ وتقول:
انت خرج تفوت عند بنات الناس عريس.. تفوت عالمقبرة
انت لازم يحطوك بزريبة حيوانات…
بدك مليون سنة تتاخذ ظفرها لنجيبة…
روح انقلع من هون واصحك تيجي بعد لهون…. وإلا بتشوف شي ما بيعجبك….
فخرج فضول المسكين مبهوتا مكسورا ذليلا من بيت العروس وهرول على درج المنزل الخارجي كلص يهرب من المطاردة. وهو يشعر بالمذلة والمهانة وفي سريرته يعتمل الغضب والنّدم ويقول ويردد كالمخبول:
شو الله ضربني هالضربة…
يا ليتها لم تكن هذه الخطبة ولا هذا المشروع الفاشل! ما كان عليّ أن آتي من الأساس إلى الضيعة!
عاد المسكين إلى منزله العتيق المتهالك وهو يتجرّع غضبه واحتقاره لذاته، وصعد بارومتر كراهيته لأهل ضيعته إلى الذروة.
في اليوم التالي حزم أمتعته وقفل عائدا إلى بيروت حيث ركب سفينة العودة وغادر إلى بلاد السانتوس من حيث أتى وظلّ طوال رحلة الإياب، يلعن الساعة التي أتى فيها إلى لبنان طلبا لعروس. كان عليه أن يبقى حيث هو مكتفيا بالمرأة الخلاسيّة التي كانت تخدمه وهي لا تكلّفه قرشا واحدا لا بل تنظف البيت وتطبخ وتغسل ثيابه وتمتّعه ليلا لقاء الإقامة والقوت فقط.
عاد فضول وقلبه يعتصر على ليرات الذهب التي صرفها ثمنا «للناولون» ذهابا وإيابا والمصاريف التي دفعها لشراء هدايا العروس والولائم على شرف شباب الضيعة الذين حلّوا عليه ضيوفا ثقال وطفيليين يأكلون على مائدته يوميا ويتبادلون النكات الزفرة والقفشات اللئيمة ويسخرون منه وهم يأكلون من خيره يزدردون زاده ويشربون خمرته ويلعنونه ويسبّونه من وراء ظهره.
حين طردته العروس لم يفهم في حينه، سببا لغضبها ولكن سرعان ما أدرك أن في أبيات الشعر خطبا ما تسبب في إغاظتها وعندما عرض قضيته على شيخ جليل في بيروت قبل سفره، شرح له أن كلمة عجيبة ليست بمستحبّة وهي تستعمل عادة للدلالة على شخص مصاب بعاهة، فزاد حزن فضول أكثر فأكثر وأدرك كم هو غبي و سطحي، وقد دفعته سذاجته إلى أن ينصاع لطلب ذلك الشاب المفتري المفتن من أبناء قريته الذي أقنعه بوجوب إلقاء قصيدة للعروس في زمن الخطوبة، هو في النهاية ليس بشاعر وبالكاد يعرف كيف يتكلّم لغة بلاده، فدفع الثمن غاليا نتيجة الغباء وعدم الخبرة !

