«الإبادة الإعلامية»: نهج العدو في إسكات الصحفيين في غزة

لا يفرّق رصاص العدو الصهيوني بين حامل الكاميرا وآلة التسجيل والورقة، زاد الصحفيين الفلسطينيين المخاطرين بحياتهم من اجل ايصال الحقيقة الناصعة. فهو يطاردهم كما يطارد المدنيين العزل، ويمعن في استهدافهم واغتيالهم منذ ما قبل اكتوبر 2013 ضمن خطة ممنهجة هي جزء من جهود هذا العدو لإسكات الحقيقة وإخفاء معالم مجازره ومنعها من الخروج إلى الضوء والوصول إلى كافة أنحاء العالم. إلا أن كل غزاوي يُعتبر مراسلاً صحفياً يوثق مجازر هذا العدو ويعرضها للعالم الذي بات يعرف حقيقة الصهاينة وهمجيتهم.
بعد 673 يوماً من التغطية في غزة بين 237 صحفياً تقصّدت «اسرائيل» اغتيال فريق قناة الجزيرة بشكل مباشر حين استهدفت الخيمة التي كانت تأوي أفراده أمام مستشفى الشفاء غرب مدينة غزة، ما أدى لاستشهاد الصحفيين أنس الشريف ومحمد قريقع، مراسلَي قناة الجزيرة الفضائية، والمصورين في القناة إبراهيم ظاهر ومؤمن عليوة، وسائق الطاقم محمد نوفل، بالإضافة إلى إصابة الصحفي محمد صبح مراسل قناة الكوفية.
أنس الشريف كان والداً وابناً وزوجاً وحبيب كل غزاوي. كان بطلاً بالنسبة للجميع. لم يتوقف للحظة في تغطية هول ومآسي ما يرتكبه العدو في غزة. قضى في غارة مجرمة وغادرة.
لم يكن مجرد صحافي، كان صوت الضمير الذي نقل معاناة غزة إلى العالم. كان عين غزة وناسها. رغم كل المخاطر كان ينقل الحقيقة التي عرّت هذا العدو.
الاعتداء على الصحفيين أمر اعتاده العدو، إذ ليست هذه الجريمة هي الأولى له، فهو يقوم بالهجوم المتعمد على حرية الصحافة ويمهد له على الدوام بحملات تحريض وتهديد من قبل مسؤولين عسكريين «إسرائيليين».
وكعادته وبكل وقاحة أكد جيش العدو استهدافه لأنس الشريف متهماً إياه «بترؤس خلية إرهابية تابعة لحماس»، مضيفاً أنه كان مسؤولاً عن إطلاق الصواريخ على المدنيين «الإسرائيليين» وقوات جيش الدفاع الإسرائيلي. الجدير ذكره أن العدو الصهيوني لم يسمح طوال فترة الحرب بدخول الصحفيين الدوليين إلى غزة لتغطية الأحداث بحرية. وقد عكس ذلك رغبة واضحة من حكومة العدو في إسكات أي تغطية إعلامية من داخل غزة، ما دفع المؤسسات الإعلامية للاعتماد على المراسلين المحليين في القطاع.
حادثة استهداف فريق قناة الجزيرة هذه هي جريمة حرب مكتملة الأركان تمثل خرقاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف، وقد حدت بوزير خارجية النروج إلى الإعلان أن «قتل صحفيي قناة الجزيرة في غزة أمر مثير للغضب وغير مقبول على الإطلاق». من هنا دعت تجمعات الصحفيين إلى ضرورة ملاحقة القتلة من قادة وجنود جيش الاحتلال أمام المحكمة الجنائية الدولية، وفتح تحقيق دولي مستقل وشفاف بإشراف أممي لضمان عدم إفلات المجرمين من العقاب. التجمع الصحفي الديمقراطي من جهته أعلن أن الجريمة جاءت بعد أشهر من التحريض العلني «الإسرائيلي» ضد الشهيدين الشريف وقريقع، اللذين واصلا أداء مهامهما المهنية منذ بداية العدوان، رغم النزوح القسري، وانعدام الأمان، وظروف المعيشة القاسية، مما يعكس إصرارهما على أداء رسالتهما الصحفية حتى اللحظة الأخيرة.
الاعتداء على الصحفيين أمر اعتاده العدو، إذ ليست الجريمة هذه هي الأولى له. فمنذ عام 1992 وحتى 2014 قتل في الأراضي الفلسطينية المحتلة (الضفة الغربية وقطاع غزة) 15 صحفياً، وفي خلال هجومه على غزة عام 2014 قتل 12 صحفياً احدهم صحفي أجنبي، ودمر 8 وكالات صحفية محلية.
من هنا فإن سجل العدو طوال السنين الماضية في اغتيال رجال الصحافة والمصورين حافل جداً. فقد اعتقل واغتال العشرات من الصحفيين عبر صواريخ طائراته الحربية وعبر رصاص جيشه، من بين هذه الأعمال الإجرامية اغتيال الصحفية الفلسطينية في قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة التي اغتالتها قواتُ الاحتلال «الإسرائيلي» يوم 11 أيار عام 2021 في مخيم جنين بالضفة الغربية أثناء تغطيتها للاشتباكات المتكررة هناك بين الفلسطينيين وجيش العدو، فضلاً عن محاولة اغتيال الصحفي يوسف أبو حسين في نفس العام بعدما قصفت المقاتلات الحربية الإسرائيلية مكان عمله في إذاعة صوت الأقصى، وكان قنّاصة جيش الاحتلال قد اغتالوا بشكل متعمد الصحفي الفلسطيني ياسر مرتجى أثناء تغطيته لاحتجاجات يوم الأرض في 6 نيسان/أبريل 2018 فضلاً عن عدد من عمليات القتل الأخرى بحق الإعلاميين والعاملين في مجال الصحافة بصفة عامة.
في الحديث عن الأرقام، نشير إلى أن «إسرائيل» قتلت في غزة خلال الفترة الممتدة منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى الآن أكثر من 215 صحفياً. فقد اغتالت خلال عملية طوفان الأقصى عشرة صحفيين على الأقل في الأسبوع الأول فقط من المعركة. أغلب الصحفيين فلسطينيون، وقُتلوا في أماكن متفرقة من قطاع غزة بسبب الغارات الجوية التي استهدفت الأبراج السكنية ومنازل المدنيين وغيرها، باستثناء الصحفي اللبناني عصام عبدالله من وكالة رويترز للأنباء الذي اغتالته قوات الاحتلال «الإسرائيلي» في علما الشعب جنوب لبنان في 13 تشرين الأول 2023. كما أُصيب في الإستهداف «الإسرائيلي» 6 صحفيين آخرين، وهم ماهر نازح وثائر السوداني من وكالة رويترز، والصحفية كارمن جوخدار وزميلها المصور إيلي براخيا التابع لقناة الجزيرة، والمصورة كريستينا عاصي ومصور الفيديو ديلان كولنز من وكالة الصحافة الفرنسية جراء استهدافِ قوات الاحتلال لسيارتهم المدنية.
وفي 10 تشرين الأول 2023 ارتكبت «إسرائيل» مجزرة في حق عدد من الصحفيين حينما أغارت بمقاتلاتها الحربية على برج حجي الذي يضم مكاتب عدد من الصحفيين الفلسطينيين المعروفين بنقل الأحداث من هناك. واغتالت صحفيان فلسطينيان بالرصاص أثناء قيامهما بتغطية الأحداث وذلك في أول أيام عملية طوفان الأقصى وهما إبراهيم محمد لافي مصوّر وكالة عين ميديا، ومحمد جرغون مراسل شبكة سمارت ميديا، كما أُصيب الصحفي إبراهيم قنن أثناء عمله مع قناة الغد بشظايا قذيفة، في حين ظلَّ المصورَين نضال الوحيدي وهيثم عبد الواحد من قناة النجاح وعين ميديا مفقودان منذ 7 أكتوبر.
وكان لقناة الميادين حصة في استهداف العدو لمراسليها وصحفييها، فقد اغتال العدو بصاروخ المراسلة فرح عمر والمصور ربيع معماري في 21 تشرين الثاني عام 2023 أثناء تواجدهما في منطقة طيرحرفا في قضاء صور اللبناني لتغطية الحرب هناك.
ويعتبر استشهاد أكثر من 220 صحفياً في غزة الرقم الأعلى في تاريخ النزاعات، متجاوزاً حصيلة الصحفيين الذين قُتلوا في الحربين العالميتين والحرب الأهلية الأميركية وحربي فيتنام وأفغانستان والحرب الكورية معاً. محمد الراجي، الباحث بمركز الجزيرة للدراسات، وصف من جهته هذه الجرائم بحق الصحفيين ب «الإبادة الإعلامية»، ونضيف انها إبادة منظورة للإبادة البشرية الجارية وتريد «إسرائيل» التعمية عليها.