الكوارث والزلازل التركية وتسييس الدين

ابتداء، خالص العزاء لضحايا الزلزال الأخير في سوريا وتركيا، ولضحايا كل الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية في كل مكان وزمان..

بعد ذلك، التوظيف السياسي للكوارث والأوبئة توظيف قديم جديد، بل أن الرأسمالية وعوالمها الأيديولوجية لم تتورع عن اختراع أكثر النظريات إجراما وتوحشا لهذه الغاية، ومنها نظرية مالثوس المعروفة حول المتواليات الحسابية والهندسية (تكاثر البشر أكثر من تطور الغذاء)، وبالتالي الحاجة إلى أوبئة وكوارث للسيطرة على هذه المتواليات.

كما قامت بعض الأوساط الرأسمالية بتأويلات خاصة للداروينية واعتبار البقاء للأصلح في خضم الأوبئة والكوارث والحروب، وصفة طبيعية حتمية للحفاظ على سيادة العرق الأبيض.

وثمة ما يقال عن المختبرات البيولوجية التي تديرها المتروبولات الرأسمالية مثل الأمراض التي صممت لأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

إلى ذلك، ثمة شكل آخر من التوظيف السياسي للكوارث والأوبئة، هو التأويلات الدينية على إيقاع مصالح سياسية بعينها.

يشار هنا إلى توظيف الزلازل والكوارث في المناطق التي تعرف اليوم بـ تركيا، وكانت من قبل تعرف بـ آسيا الصغرى وتشمل مناطق واسعة من سوريا الطبيعية (شمال سوريا) ومن بلاد الإغريق القديمة (غرب وشمال غرب تركيا) بالإضافة للهضبة الأرمنية.

فما هو معروف أن الغالبية العظمى من الأتراك سكنوا تركيا ابتداء من القرن العاشر الميلادي، الموجة البدوية السلجوقية ثم الموجة البدوية العثمانية.

التوظيف الديني السياسي الأول للزلازل في جزء من البيئة الإغريقية (غرب تركيا الحالية) جاء في سياق التجاذبات الأولى بين السفسطائيين والسقراطيين (اعرف نفسك) والطبيعيين والماديين وبين جماعات الأرباب الوثنية وكبيرهم زيوس، والتي استقوت أكثر من مرة بالكوارث والزلازل لمهاجمة خصومها من الماديين الأوائل.

التوظيف السياسي الثاني، جاء بعد سيطرة الرومان الشرقيين على بيزنطة – القسطنطينية، تركيا الحالية، وذلك حين اجتاحت الطاعون تلك المناطق وكذلك سوريا، وأدى إلى إبادة معظم الجيوش الرومانية والفارسية المتحاربة آنذاك، قبيل الغزوة الإسلامية الكبيرة لبلاد الشام التي أجهزت على ما تبقى من الحامية الرومانية في اليرموك، قبل أن تتعرض الغزوة الإسلامية نفسها إلى الموت الجماعي فيما عرف بطاعون عمواس الذي أدى إلى مقتل قادة هذه الحملة أيضا..

وقد وفرت هذه الظروف مادة لخصوم بيزنطة – القسطنطينية من الجماعات المسيحية الأخرى التي اعتبرت موجات الطاعون عقابا ربانيا.

في الأزمنة الحديثة ارتبط التوظيف السياسي الديني للكوارث في تركيا بمطابخ الاستخبارات البريطانية والأمريكية، فمع صعود موسكو وحركة التحرر الوطني والقومي في المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية، وجدت هذه الاستخبارات في تركيا أداتها الأساسية وخاصة بعد وفاة أتاتورك العلماني ومواقفه الحيادية ومجيء إدارة ضعيفة منذ عام 1939.

وهو الأمر الذي ساعده هذه الأجهزة في تبني ودعم التيار اليميني في حزب الشعب الأتاتوركي ممثلا بعدنان مندريس (التيار المقصود خليط من البرجوازية والرواسب الإقطاعية).

لم يكن مندريس مؤمنا كما السادات في مصر، لكنه قدم نفسه كرئيس مؤمن على إيقاع الاحتياجات الأمريكية والبريطانية مثل السادات تماما، وشكّل حزبا جديدا هو الحزب الديموقراطي، نجح في الانتخابات بتضافر عدة عوامل داخلية وخارجية، بينها استثمار هزات ارتدادية شهدتها تركيا، استخدمت من قبله وقبل حزبه والسفارات الأطلسية كدليل على العقاب السماوي على التراجع الديني في تركيا.

يشار هنا إلى أن مندريس وعلى مدار الحكومات التي شكلها طيلة عقد الخمسينات من القرن العشرين، أرفق حماسه الإسلاموي المفاجئ بالاعتراف بالكيان الصهيوني وإقامة قواعد عسكرية أمريكية أشهرها قاعدة انجرلك، والاشتراك في حلف بغداد، الذراع العسكري الجنوبي للأطلسي، وإطلاق الخصخصة بدعم البنك وصندوق النقد الدوليين (أسلمة، أمركة، صهينة، وخصخصة).

ومن مفارقات مندريس أن سقوطه وإعدامه من قبل الجيش تزامن هزة ارتدادية أيضا.

وقد تكررت حالة مندريس مجددا مع أردوغان، حين قام الثنائي الأمريكي بريجنسكي والمؤرخ اليهودي برنارد لويس بدعم فكرة الانبعاث العثماني من واشنطن ودعم تشكيل حزب إسلاموي خاص لهذه الغاية، وهو حزب العدالة والتنمية الذي بدأ حملاته الانتخابية للوصول للسلطة بتوظيف تداعيات الزلزال الكبير الذي ضرب تركيا آنذاك كدليل على عقاب رباني لتركيا العلمانية.

اليوم، تستعد تركيا للانتخابات الجديدة وهي غارفة في مأساة الزلزال الأخير المدمر الذي قد تساهم تداعياته في إسقاط أردوغان وحزبه.

الدكتور موفق محادين

2 thoughts on “الكوارث والزلازل التركية وتسييس الدين

Comments are closed.