اعتبر يا نسل قيصر!

هو ليس الزلزال الأول ولا الأخير. خبرت سوريا كل أشكال الزلازل والأعاصير.
عبثاً يحاول الموت أن يبلغ منها وطرًا… هي عصية على الموت.

جرحها كبير لا شك، وألمها هائل دون ريب،فبكبر تضمد جراحها النازفة وتخفي ألمها خلف ستار من عزة النفس وعنفوان المشاعر. ما اعتادت البكاء يوماً ولا امتهنت النحيب ولا العويل.

هي التي اعتادت لملمة الجراح النازفة من حولها وتضميدها، كأن التاريخ يعيد تبادل الأدوار.

ولكن قيصر يمنع لملمة الجراح، ووقف النزيف، هو ليس قانون قيصر، هو قانون هيرودس، هو قانون يشوع، قانون نيرون، قانون شمشوم.

سوريا التي أعطت للعالم قانون لبيت عشتار وقانون حمورابي، وقوانين مدرسة بيروت الحقوقية،

يقابلونها بقانون قيصر…

مسكين ذلك الذي سن قن قانون قيصر، لعله اعتقد أن كل شعوب الأرض قابلة للتطهير والإبادة، أو أنها قابلة لتتحول إلى حدائق للفرجة، كما فعل بأهل أرضه الأصليين،

مسكين ذلك الذي يتلطى خلف تاريخ أسود لا يقوى أن يخفيه،ليست سوريا التي يهزمها زلزال؛ اسألوا التاريخ كم من الزلازل هزمت، إن كنتم تجهلون؟

مشكلتكم أبناء قيصر وحلفاء قيصر وعبيد قيصر، أنكم أميو حضارة وأخلاق وتاريخ.

والمعركة كلها معركة قيم وأخلاق وتاريخ، والباقي أقل من تفاصيل.

وقف هانيبعل على أمتار من روما، ولكنه لم يدمرها وكان قادراً، تراجع. لكن قيصر عاد ودمّر قرطاجة وسوّاها بالأرض مسحا، هذا عمق الصراع، صراع ثقافات.

سوريا مدّنت العالم، أطعمته، علّمته الحرف، رقّته، أدّبته، ألبسته، علّمته العبادة، نفخت فيه روح الإنسانيّة وروحها السامية، فرفعته من درجة الهمجيّة التي كان عليها، لكن روح يهوه عصية على الارتقاء.

سوريا منارة التاريخ وأيقونته، إذا كُتب للتاريخ أن يخلع تزويره يوماً…

ليست سوريا التي يتركها أبناؤها، هم أوفياء منذ أبصروا النور.

كل أحرار الأمة والعالم العربي والعالم هم أبناء سوريا، لا تفتقد سوريا أبناء.

سنوات الضير قصيرة مهما طالت، والأجيال القادمة ستضع حداً لهذه الحقبة.

في سجل تاريخنا، مدارس كثيرة؛ ففي سوريا مدرسة للبطولة، ومدرسة للوفاء، ومدرسة للمناقب… كلها مدارس للفداء.

في سوريا قلب ينبض وروح حية، إن حروب الإرادات طويلة يكسبها أصحاب الإرادة الحقة، نحن أصحاب قضية حقة.

فائض القوة الغاشمة لا تصنع إرادة؛ اليد الحاملة مطرقة مهزومة في غمدها.

لم تعد القضية اليوم قضيةَ إنسانية، هي أبعد من ذلك بكثير، فتح الزلزال أبواب المسألة الحقيقية.

الولايات المتحدة أعجز من أن تحمل رسالة إنسانية، تاريخها سجل أسود، لم تحمل للأمم سوى القتل والدمار ونهب الثروات وإشاعة الموت، حقيقة عجزت عن أن تطمسها،

في محكمة أنطون سعاده الأخلاقية كان حكمها مبرماً: أسقطها من عالم الإنسانية، أي عار أعلى من السقوط من عالم الإنسانية؟ والعار لا يعرفه إلا من يعرف الشرف.

في معارك الحق والباطل لا مكان للتسويات، أمتنا دائماُ على حق، وأعداؤها هم الباطل. هذه قاعدة لا لبس فيها.

هي قضية جموح يحتاج كبحاً، هي قضية عالم تحكمه أخلاق قيصر وقانون قيصر ودبابة قيصر وعبيد قيصر وتلامذته، وقيصر زانية تنتهك العفاف وتحاضر فيه.

هنا تتبدى كل المعركة، هذا جوهرها الحقيقي.

شعبنا معافى حكماً، المنازل تبنى وستبنى، والمرضى سيتعافون، والمشردون سيجدون أن كل البيوت بيوتهم، وكل الآباء الذين فقدوا أبناءهم سيجدون في كل عائلة أبناء لهم. يكفيهم قبس من كرامة انبثقت من روح شعبنا الأصيل… سنة؟ عقد؟ قرن ؟ هي في عمر أمتنا لحظة؛ لكن الثابت أنهم لن ينسوا أن قيصر كان يحاصرهم قبل الزلزال وبعده ويشهد موتهم. والموت في بلادي كان دائماً موتاً مؤقتاً، محطة، طريقاً إلى الحياة.

لم تعد المسألة مسألة إعانات، ولا مسألة منكوبين، ولا مسألة مشاعر وعواطف، بل أصبحت مسألة إرادات وكرامات.

نحن منكوبون في مواجهة الطبيعة، لكننا نشعر بالكرامة، نشعر بالفخر، وأن الشرفاء تحدوا قيصر وهزموه.

الشعوب الحية تواجه قدرها، تغيره وتصنعه.

قد تكون جراحنا بليغة لكنها حكما ًجراح أعزاء.

لن يترك أبناء سوريا ولا الشرفاء شعبنا يهان أو يذل، هذا قانون الأوفياء،

القضية اليوم هي قضية شرفاء الأمة، قضية شرفاء العالم، شرفاء بيروت وبغداد وبترا والجزائر والقاهرة وتونس، وكل بقعة لنا فيها متأصلون وأوفياء، قدر قيصر أنه لم يختبرهم،

إما أن يأخذ الجميع دوره ويؤدي واجبه، ويوقف جموح قيصر، وإما أننا دخلنا نهاية التاريخ.

سوريا اليوم لا تحتاج منة من أحد، تملك كل الخيرات وكل الثروات التي تطعم العالم،

خيراتها منهوبة، سطا عليها قيصر، اغتصبها أمام أعين كل العالم الذي يدّعي حقوق الإنسان،

قمحنا، ماؤنا، نفطنا، أمننا، هواؤنا، ثرواتنا كلها منهوبة.

قيصر أحرق القمح المزروع أمام الزارع وأمام أبنائه، وقطع الماء عن أهلنا في القامشلي ليستلذ برؤيته يموت عطشاً. أي حقد؟ أي دناءة، أشد من هذا الانحطاط؟

يا أبناء أمتي في الإسكندرون لاهاتاي، في حلب وجبلة واللاذقية وكل الأماكن المنكوبة،

سيأتي اليوم الذي يكسر فيه الأحرار هذا الحصار؛ حصار الجبناء لا يدوم.

ستعود سوريا أقوى من ذي قبل. وفي تاريخنا كل الحقائق،

سوريا انتصرت، تعافت، كل الأيادي التي تضمد جراحها تؤكد هذا الأمر،

بيننا وبين قيصر جولات جديدة يكتبها المستقبل القريب.

من سوريا سلام إلى قيصر ويشوع وداود، من هانبيعل وأليسار وزنوبيا، من قدموس وزينون ويسوع،

قد جاء قيصر ليثأر من نبوخذنصر؛ رسالة لا لبس فيها. معركتنا مع قيصر في دمشق وبغداد وأورشليم وكل الباقي تفاصيل.

ربما لا يعلم قيصر أن الطفل الخارج من تحت الأنقاض وهو يبتسم، هو عصي على الموت بحسب كل قوانين الموت والحياة البشرية.

في سوريا يولد طفل تحت الأنقاض… فاعتبر يا نسل قيصر…

ابراهيم مهنّا