«سيمولاكرا» وجهُ آخر للمقاومة: مقاومة بالكلمة والفكر

«سيمولاكرا» هو عنوان كتاب جديد صادر عن دار «المجمّع الإبداعي» في بيروت للكاتبة والمحاضرة في الجامعة اللبنانية الدولية الأستاذة تهاني نصار.  في هذا الكتاب المميّز بعمق أبحاثه، تتناول الكاتبة التضليل والخداع والأخبار الكاذبة والصور المفبركة التي تروّجها وسائل الإعلام التقليدية والرقمية، بهدف تقديم واقع وهمي مختلق، وغواية الجماهير عن الحقيقة، وكسب تعاطف العالم عبر تصوير حروبها ضد ما تسميه «المنظمات الإرهابية والأنظمة المتطرفة» على أنها حملات سلام.

الأستاذة تهاني نصار كاتبة ملتزمة بالقضايا العادلة، خاصة قضية شعبنا في فلسطين الذي يتعرض للاضطهاد والإبادة الجماعية وطمس تاريخه الثقافي على يد عدو همجي يحاول أن يلعب دور الضحية عبر إعلامه المُزيّف، بدعم من الغرب الكاذب الذي يمول جرائمه ويشرعن احتلاله لفلسطين. وكباحثةٍ مؤمنة بعدالة القضية الفلسطينية، رأت أن واجبها يتمثل في التساؤل عن مصير الحقيقة والكشف عنها في ظل التغطية الإعلامية المتحيزة للعدو الصهيوني، الذي يُزيّف التاريخ بروايات كاذبة ويختلق ماضياً وحاضراً لا علاقة لهما بالواقع.

في كتابها، تكتب تهاني نصار عن غزة، أكبر سجن مفتوح في العالم، وعن شهدائها وأطفالها، وعن الأسرى في سجون الاحتلال، وعن معاناة شعب فلسطين الذي يرفض الرحيل أو الاستسلام، فضلاً عن ازدواجية المعايير في الإعلام الغربي. ومن خلال دار «المجمع الإبداعي» التي أسستها مع الأستاذ عبد الرحمن جاسم، أطلقت مبادرة ثقافية راقية تمثلت في إصدار كتاب «شرفات على الطوفان«، وهو عملٌ شارك في كتابته طلاب وخرّيجو ورشة الكتابة الإبداعية في الدار، كجهدٍ تطوعي لتوثيق قصص حقيقية تعبّر عن التمسك بالأرض والتصدي للاحتلال. هذه القصص، التي كُتبت من القلب والوجدان، هي رسالة تضامن مع أهل غزة، وتعبير عن مشاعرهم التي أرادوا أن يوصلوها إلى فلسطين ليقولوا «إنّ هذه معركتنا أيضاً.» مؤكدين قول سعاده «إنّ انقاذ فلسطين هو أمر لبناني في الصميم، كما هو أمر شامي في الصميم، كما هو أمر فلسطيني في الصميم.«

أما كتاب «سيمولاكرا«، الذي يضم مجموعة مقالات نُشرت سابقاً في جريدة «الأخبار«، فيكشف بجرأة السرديات المزيفة وتضليلات العدو، عبر تحليلٍ يجمع بين الفلسفة وعلم النفس والسوسيولوجيا والنقد الأيديولوجي. تستند الكاتبة إلى أفكار فلاسفة مثل جان بودريار وسلافوي جيجيك وميشال فوكو وفرانز فانون ولوي ألتوسير، لتفكيك الآليات التي يحوّل بها الإعلامُ الواقعَ إلى صورةٍ مشوّهة، والحقيقةَ إلى محاكاةٍ فارغة. كما تستحضر رمزية فيلم «الماتريكس» لتسليط الضوء على كيفية تحويل الهيمنة إلى نظام إقناع وتطويع.

الكتاب يدعو إلى التفكير النقدي في عصر طغيان الصور، ويسائل الروايات الجاهزة، ويطرح إشكالية: منيملك الحقيقة؟ ومن يتحكم في سردها؟ على سبيل المثال، تعتمد الكاتبة على فرويد لتحليل الدعاية النفسية، وعلى بودريار لفهم صناعة الصورة الإعلامية الزائفة، بينما تستعين بـجيجيك وفوكو لتفكيك الأنظمة الأيديولوجية التي تنتج واقعاً متخيلاً لخدمة الهيمنة.

كما يتناول الكتاب دور اللغة كساحة مواجهة ضد السردية الصهيونية، وكيف أن الصراع ليس عسكرياً فحسب، بل هو أيضاً صراع خطاب وسرديات. ويُبرز تناقضات الرواية الصهيونية من خلال تحليل «زلات اللسان» في تصريحات قادتها، مستنداً إلى التحليل النفسي واللغوي.

إنَّ مقالات «سيمولاكرا» ليست سوى جزء من الجهود المستمرة لإبراز الحقيقة من خلال نقد علمي وفكري يرفض تقديم واقعٍ مشوه ويعيد للضحايا وجوههم، وللشهداء أسماءهم، ويقاوم تذويب الإنسان في شريط الأخبار العاجلة. يكتب عن الوجوه والأحلام والقصص، لا عن الإحصاءات. عن غزة التي تُقصف وتُحاصر وتُتهم، ولكنها ترفض أن تُمسح. باختصار، الكتاب يشكل وثيقةً ثقافية وسياسية بارزة، تتحدى محاولات التمويه ويطرح سؤالًا أخلاقيًا جوهريًا: أينيقف المثقّف؟ لا بوصفه مراقبًا محايداً، بل فاعلًا وصاحب موقف. بين طيّاته نقد لاذع لانتهازية بعض النخب الغربية، وتواطؤها، حتى حين تتزيّا بثياب التضامن أو النسوية أو الأكاديمية النقدية.

باختصار، «سيمولاكرا» وجهُ آخر للمقاومة: مقاومة بالكلمة والفكر، غاضبةٌ لكنها يقظة، ترفض أن تستسلم لتشويش الصورة أو لتزييف التاريخ.