القبض على المعنى

لسنا الآن بصدد مبحث حول المعنى، بمقاصده الأدبية الإبداعية، بل للحديث حول معنى العيش ومعنى الحياة، كقوام بشري دنيوي يحتاج إلى البقاء الاستمرار بكرامة حتى وفاته، وهذا ما بحث الإنسان عنه طوال تاريخه وتوصل إلى المعنى منه بالتوافق مع مصالح جميع البشر الموحدة حول هذا الشأن، ولعل أرقى وأنبل ما توصل إليه البشر، هو تصالحهم على معنى الحياة البشرية، على الرغم من كل الآثام الحربية التي يرتكبونها ومن ثم يندمون، ويذهبون في مسار أكثر رشداً في كل مرة يعرضون فيها حياتهم للخطر، لأن فيه مصادرة لمعنى الحياة، وهذا معنى مجموعي، فمن يعرض حياة الآخرين للخطر، يكون قد صادر معنى حياته نفسها.

واليوم في حياتنا السورية، نواجه أخطر ما يمكن أن يواجهه الإنسان، الذي هو فقدان المعنى، بشكل متزايد وعمومي وإرادي، تحت مسميات السياسة والوطن والطائفة والغلبة، فمهما كانت مسببات أو ذرائع فقدان المعنى، فهي لن تنجينا من الخروج عن التحضر. هكذا بكل فجاجة، ومع فقدان التحضّر نتحول إلى دريئة للتصويب، وهدف لكل من يعرف معنى الأشياء ويمارس هذا المعنى حفاظاً على تحضره، من غير المتحضرين الذين سيتحولون إلى همج مع كل إستزادة من فقدان المعنى، أو تشويهه، أو المداورة به، فالمعنى واضح شعبياً، ولا يحتاج إلى ذكاء فائق، أو إلى دراسة مضنية لاكتشافه، وهو قيد التداول في معظم بقاع الأرض مستجلباً فوائد للبقاء والاستمرار، فشرعة حقوق الإنسان واضحة وضوح الشمس للأميين قبل المتعلمين، ولا يحتاج فهم معناها إلى مبرر من أي نوع، ولا إلى وازع أو دافع لفهم معنى أن المصلحة متعلقة باستمرار حياة البشر بكرامة أفراداً وجماعات ومجتمعات، فإما أن تدعم معنى الحياة، أو تُهدر حياتك بنفسك.

اليوم نقف واجمين أمام الكثير من المعاني المعرفية التي تتدبر الحياة الإنسانية، لسنا واجمين فقط بل مترددين ومذعورين من إعلان المعاني التي تقتضيها الحياة البشرية، ساكتين عن التزوير والتمويه والتشويه لهذه المعاني، وكل سكوت عن الأعراف بهذه المعاني سوف نعاقب عليه بحفر قبورنا بأيدينا، فالدولة والمجتمع والسياسة والحرية وحتى العنف المقنن، كلها مصالح ذات معاني وإلا كان من الجزاف وجودها، ومصادرة معانيها بالقوة أو العنف، هو نقلة غير إنسانية تشير إلى فوات التحضر، وكلها معاني بسيطة يمكن ممارستها بالقليل من القناعة بإنسانيتنا، المجبرة على تبادل المنافع، وليس الأهوال والمجازر في سبيل تغيير المعنى إلى مرتبة أقل ما هو عليه، فهنا اختلاف في معنى التعاطف الإجباري بناءً على العنف المولد للتحاقد الوراثي، وبين معنى التعاطف الإنساني المبني على الإرادة العاقلة والمعقلنة.

ما الذي في الحياة الدنيوية المعاصرة يحتاج إلى شرح معناه الأصلي؟ فكم تحتاج من الوعي لتدرك أن معنى إشارة المرور التي وضعت في مكانها لصالحك؟ وهل هذه تحتاج إلى إعادة شرح معناها بناء على خصوصية ما أو مزاج شعبي؟ ألا يفقه الأهبل أنها وضعت لحمايتك من نفسك وكذلك الآخرين؟ هل نحتاج إلى كيميا لنفهم معنى الدولة المعاصرة المفهومة والتي يمكن التفاهم معها، وأنها وجدت لحمايتنا وخدمتنا؟، هل نحتاج إلى فيزياء الكم لفهم معنى المساواة، إذا كانت العدالة لا تتحقق إلا بين متساوين؟ وهل نحتاج إلى مفاعل نووي لفهم معنى الدستور ومعنى دوره في الحياة المعاشة؟ فإذا كنا أو كان فينا من لم يدرك هذه المعاني، فإلى الجحيم كل إنجاز وكل سلطة وكل رؤية، لم تلحظ ضرورة الحفاظ على المعاني وتنفيذ استحقاقاتها، فالهزائم فاغرة فاها لتلتهم كل مقصر في تبني هذه المعاني بمقاصدها الواضحة جداً.

اليوم تغيير المعنى هو أسهل على أية سلطة من إنجازه باستحقاقاته النفعية، ولكنها تغامر بانتحار الاجتماع البشري، باستخدام الرعاع من الذين لا يرون المعنى، وليسوا على استعداد للاعتراف به وبفوائده، فينفرون إلى غرائزهم القطيعية الشوهاء، تاركين التحضر والعقل والمدنية، منتجين أسوأ ما للبشرية يمكنها إنتاجه، كهوية مرعبة لمن هم أضعف منهم، دون أن يدروا أنهم وضعوا أنفسهم بين مسننات الحضارة البشرية التي سوف تهرسهم، لإنهم غير صالحين لحياة لم يحترموا معانيها.

المعنى هو القصد من كل كلام أو تصرف أو إجراء، وعلى المعنى أن يكون متوافقاً مع قيم البشرية العمومية، التي أثبتت نجاعتها في صنع الانتصارات، وها نحن نرسف في إنجازاتنا البلهاء منذ قرن ونيّف، ساعين وراء هراء المعاني، من سلطة وشوكة وتعانف، وكأننا لم نسمع بالعصور الحديثة ونهضات الأمم والشعوب، التي لم تكن مشروطة بشيء سوى ممارسة المعاني الإنسانية كما طورها الإنسان في هذه الدنيا، لذلك تليق بنا الهزائم، وللهزائم معانٍ كثيرة، هيهات أن نفهمها، طالما نصبنا أنفسنا بمراتب أعلى من شعوب الدنيا قاطبة…. ولكن بلا معنى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *