أهمية مفهوم النهج عند سعادة، وخطورة إهماله

في المحاضرة الثانية من محاضرات الندوة الثقافية للعام 1948، يحدد سعاده نظام الحزب السوري القومي الاجتماعي بأنه “لا يعني الترتيبات الشكلية الـخارجية، بل هو نظام الفكر والنهج، ثم نظام الأشكال التي تـحقق الفكر والنهج“.

إن نظام الفكر في الحزب هو واضح ومثبت في مبادئه الأساسية والإصلاحية، وغايته ونظرته الى الحياة والكون والفن. وهو من الثوابت التي لم يتم المس بها على مدى تاريخ الحزب، مع بعض المحاولات لتفسيره ومقارنته مع مدارس فكرية أخرى.

ونظام الأشكال، خطط له الزعيم في دستور الحزب، برغم كل ما طاله من تعديلات وعبث على مدى السنين والتنظيمات والعهود. وقد كان لهذا العبث بنظام الأشكال تأثيرات كبيرة على عمل وأداء الحزب، بسبب تناقض التعديلات والتفسيرات مع جوهر فكر سعاده الدستوري، وأدى في أحيان كثيرة الى تضارب في الصلاحيات، وكان له دور غير بسيط في الانشقاقات المتتالية التي حصلت في الحزب. وهذا موضوع بحاجة لأبحاث متخصصة خارج نطاق هذا المقال. وتجدر الإشارة أن نظام الأشكال غالباً ما يكون عرضة للتطوير والتغيير لمواكبة تطورات الحياة، بوتيرة أسرع بكثير من نظام الفكر.

ولكن، ماذا عن النهج، الذي ربطه سعاده بالفكر، وقال أن نظام الأشكال وجد لتحقيق الفكر والنهج؟ ولماذا لم يسمِّ النظام الأول نظام الفكر فقط، وان نظام الأشكال الذي وجد لتحقيق نظام الفكر؟ وهل تحقيق نظام الفكر غير ممكن بدون نهج مناسب؟ وهل الخلل في النهج، قد يؤدي الى خلل في نظام الاشكال وقدرته على تحقيق نظام الفكر؟

قد يعتقد البعض أن هذا نقاش نظري لا يمتّ الى الواقع ومشاكله بأية صلة. لكنه في الحقيقة في صلب الواقع، وقد يكون أحد أهم مسببات مشكلاته.

المعنى المعجمي الأصلي لكلمة نهج هو الطريق الواضح المستقيم. وبعد حُلول عصر العلم الحديث أصبح معناه أساليب التطبيق. فنقول النهج العلمي، أي تطبيق الأساليب العلميَّة. وهو باللغة الإنكليزية Approach، ويعني المقاربة وأسلوب العمل. والبعض يسميه باللغة العربية، المنهج أو المنهاج. ومن هنا تسمية الزعيم لخطابه الأساسي الذي القاه في حزيران 1935، بالخطاب المنهاجي الأول، وشرح فيه مقاربته للعديد من المسائل المتعلقة بتطبيق الفكر، كما سنوضح لاحقاً، والذي عاد ففصله في المحاضرة الثانية عام 1948. وهو خطاب منهاجي أول، بمعنى أن يتبعه خطابات أخرى توضح المنهاج، أو النهج. والحقيقة أن معظم كتابات سعاده كانت تدور حول إيضاحات في النهج الذي على أساسه يمكن لنظام الأشكال أن يحقق الفكر. ولذلك في المحاضرة الثانية، ربط النهج بالفكر عندما قال نظام الفكر والنهج Discipline، كأساس لنظام الاشكال، أو التنظيم Organization.

وقد طرح العديد من المفكرين علاقة النهج بالفكر، وتأثير وأسبقية أحدهما على الآخر. فهل الفكر هو الذي يؤثر على النهج ويحدده، أم أن النهج هو الذي يؤثر على الفكر؟


وكانت معظم الآراء ترجح تأثير الفكر على النهج، على أساس أن الفكر أوسع من النهج، فالفكر “عبارة عن كل المعارف والثقافات المختلفة والمتنوعة، في حين أن المنهج هو عبارة عن أداة تنظيم تلك المعارف والثقافات”. والنهج ما هو إلا نتاج للفكر. ويرى آخرون أن للنهج أيضاً تأثير على الفكر، من حيث المساعدة على تنظيمه حتى لا يبقى أفكاراً مبعثرة .واتباع نهج أو منهج معيّن في التفكير والعمل يؤثر على كيفية عرض الفكر وتنظيم أولوياته.

ولا شك أن سعاده كان مطلعاً على ذلك عندما ربط الفكر بالنهج دون تحديد اسبقية أحدهما على الآخر. كما أن نهج تفكيره العلمي والعملي هو ما ساعده على صياغة الفكر بطريقة منظمة كما هو واضح في المبادئ والغاية والنظرة الى الكون والفن والحياة.

لكن سعاده لم يكتفِ بوضع نظام الفكر، والركون الى نظام الأشكال لتطبيقه، لأنه يدرك أن شمولية النهج، والمقاربة والتطبيق للفكر، هي التي تحدد الأولويات والخطط والأهداف المرحلية لنظام الأشكال. وبدون ذلك، قد يحصل اجتزاء أو انتقائية في النهج والمقاربة والتخطيط وأهداف التطبيق العملي، مما يقزّم خطط ودور نظام الأشكال، ويؤدي مع الوقت الى عجزه عن تحقيق الغاية من وجوده، وبالتالي تحقيق نظام الفكر والنهج. وهذا ما حصل فعلاً بعد استشهاد سعاده، في حزبه، حيث ركّزت العهود المتعاقبة على فهم مجتزأ للنهج، وبالتالي على تطبيقات جزئية للفكر، أدى مع الوقت الى الخلافات الداخلية وضرب الوحدة الروحية وقصور الخطط والانشقاقات والمدارس.

فلننظر أولاً الى بعض ملامح النهج عند سعاده في مقاربته لمسألة تحقيق نظام الفكر والنهج خلال قيادته لنظام الاشكال خلال وجوده في الوطن، قبل وبعد الاغتراب القسري، وقبل استشهاده.

في قراءته للخطاب المنهاجي الأول في المحاضرة الثانية، يتحدث سعاده عن عدة أسس لمقاربته المنهجية للعمل الحزبي. وقبل أن يدخل في ذلك، حدد في مقدمة المحاضرة مرتكزاً أساسياً من مرتكزات نهجه الرائد:

التقليد والابتكار المستمر المتجدد

في زمن كان مجتمعنا خارجاً من عصر الانحطاط والجهل، خلال الاحتلال العثماني، ومعظم مثقفوه ينسجون على منوال الغرب والنسخ والنقل والتقليد، بما في ذلك عدد من مثفقي الحزب الذين نشأوا في فترة غيابه القسري، يقول سعاده: “لا بد من التصريح بأن نظام الـحزب السوري القومي الاجتماعي لا يقوم على التقليد، بل على الابتكار الأصلي الذي هو من مزايا شعبنا، على قوة الـخلق التي كانت كامنة في نفس الأمة السورية إلى أن ظهرت الـحركة السورية القومية الاجتماعية وأعلنت في مبـادئها أنّ النهضـة القـوميـة الاجتماعيـة تستمد روحها من مـواهب الأمـة وتاريخها الثقافي السياسي القومي”. كان نادراً في ذلك الزمن أن تجد مثقفاً أو مفكراً أو قائداً سياسياً، خاصة من الذين نالوا علومهم في جامعات الغرب أو ارسالياته، يتحدث عن الابتكار والاستقلال بعيداً عن التبعية الثقافية والاستلاب الفكري والانبهار بالثقافات الأجنبية.

ويشدد على ديناميكية الفكر وضرورة استمرار الابتكار والتجديد المنظّم والتفاعل مع العالم وثقافاته وعلومه وتقنياته، دون الانبهار الأعمى بها، لاستكمال النظرة الأصلية التي تشكل جوهر قضية الحزب، فيقول في المحاضرة نفسها: “بديهي إذاً أن لا نتمكن من فهم قضية الـحزب السوري القومي الاجتماعي كلها بكامل أجزائها وفروعها وما تنكشف عنه من مناقب وأهداف سامية وما تتعرض له في سيرهـا من مثالب في الـحياة، إلا بالدرس والتأمل الطويل. إنّ قضية من هذا النوع تتكشف عن كل هذه الأهداف الـخطيرة تـحتاج إلى دراسة منظمة متسلسلة لا تـجمعها محاضرة واحدة أو يضمها كتاب واحد بل هي تستمر، ويستمر الفكر يتغذى منها ويتفتح على شـؤون العـالـم مطلقاً، ويظل مجتمعنا يجد في هذا التفتح وهذا الاستمرار مراقي إلى ذروة الـحياة الـجيدة التي تليق بالإنسان الراقي ويليق الإنسان الراقي بها“.

فهل استمر الحزب، كنظام أشكال يسعى الى تحقيق نظام الفكر والنهج، في هذا النهج من الدراسة المنظمة المتسلسلة المستمرة في تتبع التطورات العالمية ليرتقي بمجتمعنا بشكل مستمر الى ذروة الحياة الجيدة، التي تتطور في العالم بشكل مستمر، والتي تليق بالإنسان الراقي ويليق الإنسان الراقي بها؟ أم أن الحزب تبنى نظرية أن سعاده وضع الرسالة وختمها بدمه، مما شكل دعوة غير مباشرة لوقف مسيرة البحث والدراسة المنظمة المتسلسلة المستمرة، والتي كانت إحدى أهم أسباب تعطل النهج الدينامي والتفكير العملي والعلمي الذي ارسى سعاده دعائمه. وهل لو بقي بعد 1949 كان فعلاً ختم الرسالة واكتفى بما كتبه حتى تاريخ استشهاده؟

ويؤكد أن النظام القومي الاجتماعي “لا يقوم على التقليد الذي لا يفيد شيئاً، بل على الابتكار الأصلي الذي هو من مزايا شعبنا”. فهل ترجمنا مفهوم الابتكار الأصلي في عملنا وخطط نظام الاشكال عندنا في مرحلة ما بعد سعاده، بما يظهر إيماننا أن الابتكار الأصلي هو من مزايا شعبنا؟

التحرر والعمل والارتقاء والتحقيق والخلق

وفي مراجعته للخطاب المنهاجي الأول، يركز سعاده على عدة مرتكزات لنهجه، بدءاً من تحرير أنفسنا ضمن الـحـزب من السيـادة الأجنبية والعوامل الـخارجية، والعمل لإنقاذ أمتنا بأسرها وتحرير وطننا بكامله منها. فهل هذا يتوافق مع نهج التحالف مع الغرب لتحقيق الأهداف القومية، كما تضمنت مواقف الحزب في الخمسينات وبيان الأول من آذار 1955؟

ويقول سعاده عن الخطاب المنهاجي الأول أنه “أول شرح لـمبادىء الـحزب وكيفية فهمها وتطبيقها في حياتنا“. ويتابع “وبديهي أنّ قصدنا نحن بالـمبادىء ليس صوراً جميلة على الورق فقط، بل قوة فاعلة في الـحياة ـ حياة تعمل وتنشىء وترتقي وتـحقق وتخلق. وإذا تتبعنا هذا الـخطـاب من أول فقراتـه اتضحت لنا نقاط أسـاسيـة مهمّة جداً يليق بنا أن نحيط بها وأن نفهمها فهماً لا التباس فيه.”

إذاً هناك عدة طرق لفهم المبادئ، التي تشكل نظام الفكر، وتطبيقها، وهذا دور النهج، ولذلك ربط الفكر بالنهج عندما تحدث عن النظام، وقال أن نظام الأشكال وجد لتحقيق الفكر والنهج، وليس الفكر فقط.

فثمة من فهم من القيادات المتعاقبة أن مجرد التبشير بالفكر كاف لحصول النهضة. ومنهم من فهم أن الدور الأساسي للحزب هو دور سياسي هدفه الوصول للسطلة. وغيرهم فهمه عمل عسكري أو أمني بحت لمواجهة الأعداء والخصوم، فحوّل الحزب مع الوقت وتطوّر ضرورات ومستلزمات المقاومة العسكرية وتقنياتها، والى فصيل مسلّح يعتمد بتسليحه وتمويله على الحلفاء. وكل هذه نظرات مجتزأة الى النهج، قاصرة عن ايجاد “قوة فاعلة في الـحياة، حياة تعمل وتنشىء وترتقي وتـحقق وتخلق”، مع الحفاظ على تكرار المبادئ والغاية والتأكيد اللفظي على العمل لها، مع اختلال كبير في النهج بين ما يتطلبه تحقيقها وبين الخطط التي تبناها الحزب على مدى عقود، مما حول الغاية من تحقيق النهضة وإقامة النظام الجديد الى مجرد الحفاظ على البقاء.

التغلب على الصعوبات الداخلية والخارجية

ويتابع سعاده في المحاضرة الثانية أننا “في هذا العمل الـخطير نواجه صعوبات داخلية وخارجية يجب أن نتغلب عليها، مبتدئين بالأولى منها لأنه لا يـمكننـا أن نتغلب على الصعوبات الـخارجية تغلباً تاماً إلا بعد أن نكون تغلبنا على الصعوبات الداخلية. وأول ما يعترضنا من الصعوبات الداخلية هو خلو مجموعنا من تقـاليـد قـومية راسخة نتربى عليها ونتمسك بها. فنفسياتنا الشخصية هي دائماً في تضـارب مع نفسيتنا العامة في كل ما له علاقة بقضايانا العامة وكيفية التصرف فيها. أضف إلى ذلك التقاليد الـمتنافرة الـمستمدة من أنظمتنا الـمذهبية وتأثيرها في مقاومة وحدة الشعب القومية.” فهل أولى الحزب بعد سعاده اهتماماً كافياً لنهج بناء تقاليد جديدة تزيل التناقض بين نفسيتنا الشخصية ونفسيتنا العامة، أم هذا التضارب تسرّب الى داخل مؤسسات الحزب واستغلّت وضربت نظام الشكل، تحت عناوين فكرية عامة لا سبيل الى تحقيقها دون نهج عملي واضح وجذري، لا يساير التقاليد المتنافرة المستمدة من الأنظمة المذهبية، الى حدّ التحالف أحياناً مع هذه الأنظمة بحجج مختلفة؟

ليست القوميـة إلا ثقة القوم بـأنفسهم واعتمـاد الأمة على نفسها. ومن هذه الـجهة نرى أنّ مبدأنا هذا يكسبنا الـحيوية الـمطلوبة لـجعل شخصيتنا القومية ذات مثال أعلى خاص وإرادة مستقلة هي اساس كل استقلال“. فهل ترجم الحزب ذلك في نهجه وخططه العملية، لنبقي على الحيوية المطلوبة، أم أن سياسات الحزب مع الوقت قد تخلت عن الإرادة المستقلة واعتمدت تبعيات متعددة لأنظمة وجهات حليفة أو خارجية لاستدرار الدعم والدور في سبيل البقاء؟ إن التغاضي عن هذا النهج، دفع بنظام الأشكال الى وضع خطط لا تأخذ هذه المسائل بعين الاعتبار، فلم تبنِ مقومات اقتصادية أو بنوية لتأمين هذه الاستقلالية، مما دفعها الى الارتماء في أحضان الحلفاء والممولين، وتقزمت خطط نظام الشكل، بسبب اجتزاء النهج بشكل انتقائي، فيما بقيت تردد نظام الفكر بشكل موسمي ببغائي اقرب الى الطقوسية، مع فقدان الثقة تدريجياً بقدرة خطط نظام الشكل على تحقيق نظام الفكر والنهج.

ويتابع “كنا ننتظر من البدء أنّ عملية التغيير ستلاقـي حوادث من داخل الـحزب السوري القومي الاجتماعي ومن خارجه. مع ذلك ومع انتظارنا هذه الـحوادث كنت مؤمناً بأن القـوميـة الاجتمـاعيـة ستنتـصـر في الأخيـر. ولذلك قلت: «إنّ السورييـن القومييـن الاجتماعييـن، عموماً، يؤمنون بضـرورة هذا التغيـّر إيـماناً تـامّاً، ويظهـرون استعـدادهم التـام وعـزمهم الأكيـد على أن يحققـوا انتصار مبـادىء الـحـزب السـوري القـومي الاجتمـاعي، مبتدئين كل واحد بنفسه»”. الى أي مدى كنا مؤمنين بضرورة التغيير، وكيف خططنا لمواجهة الحوادث التي ستعترض عملية التغيير من داخل الحزب وخارجه؟ وإذا كان سعاده صاحب النهج الشمولي لكيفية تطبيق الفكر والمبادئ، مومناً بأن القومية الاجتماعية ستنتصر في الأخير، هل كان القيمون على نظام الأشكال، والخطط التي وضعوها على مدى عقود، تعكس هذا الاستعداد والعزم لمواجهة الحوادث وتحقيق الانتصار الأخير؟ أم أن الظروف القاسية التي مر بها الحزب، والتي هدّمت وأضعفت نظام الأشكال، وساهمت في تقزيم خططته، دفعت البعض الى اجتزاء كلام الزعيم حول ان انتصار المبادئ في أعضاء الحزب، هو الغاية الأخيرة للعمل، ضاربين بعرض الحائط النهج الشامل الضروري لبناء خطط المؤسسات، والعمل كمنظمة متكاملة قوية لا كشراذم وجماعات وفئات وافراد؟

النزعة الفردية

أفرد سعاده مقالات طويلة حول النزعة الفردية، واعتبر في المحاضرة الثانية، في معرض حديثه عن الصعوبات الداخلية في الحزب والأمة، “أنّ النزعة الفردية والرأي النفعي الفردي الشخصي هما مرض من أعظم الأمـراض، وصعوبة من أعظم الصعوبات الداخلية التي يجب أن نتغلب عليها لنواجه العالم الـخارجي وحدة متينة وإرادة واحدة“. فهل حصّنا نظام الأشكال ووضعنا الخطط الضرورية والضوابط الداخلية لمكافحة النزعة الفردية، التي قال عنها في مقال آخر أنها اخطر من الاحتلال الخارجي؟ أم أننا تغاضينا عن أصحابها الذين وصلوا الى أعلى المراتب في الحزب بحكم النظام أو لضرورة الحفاظ على الوجود؟

ويصف قوة الحزب بأنها “قوة السواعد الـحرة، قوة القلوب، قوة الشعور، قوة الإحساس الـمرهف، قوة الأدمغة، قوة التفكير والتوليد والإبداع والتصور، وليس قوة الـمكانة الـمتراكمة. أي فرد من أفراد الأمة فيه مبدأ الـحياة هو الذي يهمّنا، أكان ذا مكانة تراكمية أم لم يكن، لأن فيه فاعلية الـحياة والنمو التي لا توجد في الأشياء التراكيمة. إنّ نظامنا هو الوحيد الذي يؤمل أن يكفل لهذه الأمة مستقبلاً غير الـحالة الزرية التي تتعثر فيها.” فهل اعتمدنا هذا النهج، وحصنّا الحزب من أن تدخل اليه أشكال المكانة التراكمية الموجودة في المجتمع، من إقطاعيات ومراكز قوى ونفوذ تستقوي بأصحاب النفوذ وهذه المكانة التراكمية في المجتمع، وأصبح نظام الأشكال يقصي بشكل تلقائي أصحاب المواهب والقوة المتعددة الأشكال وفاعلية الحياة والنمو؟ ونشأ داخل الحزب فئويات ومدارس وتكتلات وتبعيات لأصحاب المكانة والنفوذ فيه، مما حوّل الولاء في الـحزب، “القائم على يقين كلي وإيـمان مطلق لا سبيل، معه، إلى الشكوك” الى تشكيك وتخوين وتبعيات وتردد وفوضى وبلبلة؟

مواكبة تطورات العصر

وفي نشوء الأمم يتحدث عن الثورة الصناعية، (الكتاب الأول، الطبعة الأولى ص 85)، ويقول: “إنّ الثورة الصناعية وضعت الاجتماع على أساس جديد” إذ “أوجبت القضاء على الاقتصاد الفردي العائلي وإعادة الاقتصاد الاجتماعي على أساس جديد“. “فابتدأت العقول القوية تفكر في حلول للقضايا الاجتماعية التي نشأت وفي أنظمة جديدة للمجتمع”. وقد رأى “فيها: تـحرير القوَّة العقلية من ضغط العمل الكسبي الفردي، وترقية التفاعل الاجتماعي“. ودعى الى إدخال الأمة التي كانت ما تزال ترزح في العصر الزراعي، الى العصر الصناعي، كأحد اساسات نهج تطبيق الفكر. فهل عمل نظام الأشكال على وضع الخطط المناسبة لتحوّل الأمة الى العصر الصناعي في العقود التي تلت غيابه؟ أم اعتبر ذلك ترفاً فكرياً تنظيرياً؟ ولو كان ما زال موجوداً في العقدين الأخيرين، ألم يكن دعى، بحسب نهجه المرتكز الى مواكبة العصر والتفاعل مع العالم وتطورات الحياة فيه، الى إدخال الأمة (والحزب) الى عصر المعرفة، من موقع انتاج المعرفة والعلوم والآداب والثقافة والتكنولوجيا، وموقع الابتكار والخلق والتميّز والفعل، لا موقع المتلقي المستهلك السلبي المفعول به؟

الفلسفة المدرحية

وعلى هذا المنوال، طرح عدداً كبيراً من مرتكزات النهج الذي يعتبره ضرورياً لتطبيق الفكر وترجمته الى خطط يستطيع نظام الأشكال الارتكاز عليها لتحقيق الفكر والغاية والنهضة. فنرى كيف أنه طرح فلسفة التفاعل الـموحَّد الـجامع لقوى الإنسانية، وأسماها الفلسفة المدرحية، كبديل عالمي للفلسفات المادية (الرأسمالية وصنوها الاشتراكية) والفلسفات الروحية (الفاشية والقومية الاشتراكية)، والتي أدى صراعها الى تدمير كبير للحياة الإنسانية في الحرب العالمية الثانية، ولاحقا في الحرب الباردة بين صنوي الفلسفة المادية.

الديمقراطية التعبيرية

كما طرح مسألة التعبير عن الإرادة العامة لا تمثيلها فقط، وعدم تساوي الذين يعلمون مع الذين لا يعلمون، كطريقة معاصرة لإصلاح الديمقراطية العددية السائدة في العالم، والتي ما زلنا نرى عقمها وفشلها الى يومنا هذا. وقد حصن نظام الأشكال في الحزب من هذه الديمقراطية العددية التمثيلية، لكن القيادات بعده عادت وطبقتها حتى داخل الحزب.

الإدارة والإرادة: نزولاً وصعوداً

شهدت معظم تيارات الحداثة في الفكر والتنظيم والإدارة جدليات تاريخية، بين الهيكليات المركزية التي تعتمد على الموروث من الأنظمة البطريركية، التي تصدر الأوامر والتعليمات من المراتب الأعلى الى المراتب الأدنى، بدون نقاش أو مراجعة، وتلك التي عدّلها ماكس ويبير بعد أن تحررت البروتسطانتية من هيمنة البابا المركزية في القرون الوسطى في أوروبا، وبعض الأنظمة الديمقراطية في الغرب التي تدّعي تمثيل الإرادة العامة للشعب من خلال الأنظمة الانتخابية البرلمانية، والتي تقول أن سياسات الدول هي تنفيذ لهذه الإرادة مع أن تنفيذ هذه السياسات يأتي أيضاً من فوق الى تحت. وصولا الى الأنظمة المسطحة والهيكليات الشبكية التي ظهرت مع تطور التكنولوجيا والإدارة والعولمة. وقد أدى كل ذلك الى ابتكار مفاهيم جديدة للحوكمة، ظهرت في مطلع الالفية الثانية، تقول أن الإدارة الرشيدة هي التي تراقب كل الأنظمة على كافة المستويات من فوق الى تحت، مع كل ما رفاقها من شكليات فرّغت المفهوم من مضمونه.

سعاده كان متميزاً في هذا المضمار قبل العالم بسبعة عقود، عندما وضع نظاماً مركزياً تسلسلياً يقوم على تعيين الإدارات من أعلى الى اسفل (مجلس عمد، هيئة المنفذية، هيئة المديرية) وأرفقه بنظام متبكر لتمثيل الإرادة العامة من أدنى الى أعلى ودعم الإدارات المعينة في وحدة روحية على كل مستوى (لجنة المديرية، مجلس المنفذية)، واعتمد التعبير عن الإرادة العامة من قبل المؤهلين الذين ينالون رتباً تخولهم تحمل الوظائف العليا الرئيسية. وأعلى هذه الرتب رتبة الأمانة. وهذا يعدّ نهجاً إدارياً منسجماً مع المنطلقات الفكرية، وقادراً على تحقيقها في نظام الاشكال. فهل كانت المؤسسات الحزبية والقيادات مدركة لهذا الابتكار وأهميته وريادته، وهل طبقته بشكل يحافظ على دينامية الحزب وتطوره الدائم واحتصانه للابتكار والابداع والوحدة الروحية؟ الجواب للأسف هو كلا كبيرة. فقد أبقت القيادات المتعاقبة، بحكم الظروف الصعبة، على الجانب الأسهل وهو التعيين من أعلى الى أدنى، وعطلت بشكل كامل الانتخاب من أدنى الى أعلى، وتلاعبت بمعايير منح رتبة الأمانة، وهي الرتبة الأولى التي كان الهدف منها إيصال الشخص المؤهل والمناسب لتولي الوظائق العليا، فحولتها الى رتبة انتخابية دون معايير، عززت التبعيات وأوصلت غير المؤهلين، ورسخت الفئويات والكليكات داخل الحزب.

كما أن غياب النهج ومواكبته لتطورات الحياة في هذا المضمار، قد عطل أية محاولات لمواكبة العصر وتطوير الإدارة الحزبية ونظام الأشكال ليواكب تطورات الحياة ومفاهيم الإدارة الحديثة والوسائل التقنية الحديثة التي يوفرها عصر المعرفة  لتفعيل عمل المؤسسات. وبقي نظام الشكل على تأخره، أو تم العبث به الى الأسوأ، وأدى غياب البحث العلمي والشجاعة الأدبية والعملية الى تحوّل الكثير مما يجب أن يكون خاضعاً للتغيير والتطوير في آليات العمل، الى موروث مقدس يشكل المس به خروجاً على الفكر والمنطلقات الأساسية. وبذلك عاد الحزب إدارياً الى منظومات العصور والوسطى التي سبقت نظرية سعاده.

مفهوم القوة والتضحية الفردية

يقول سعاده أن “القوة قوتان: مادية ومعنوية، وإهمال الواحدة يسبب هلاك الثانية. وقد كانت القوة في الأصل مادية بحتة ثم أخذت تتطور بدخول الفكر البشري وارتقائه حتى أصبحت معنوية أيضاً، وأصبح الفكر أعظم أهمية من المادة، فكثر اعتماد الأمم الحية على الفكر الذي هو قوة غير محدودة”. (الأعمال الكاملة 1، 2001، صفحة 412)

وللقوتين المادية والمعنوية-الفكرية في هذا العصر مظاهر عديدة، لا تقتصر على بعض مظاهر القوة الشكلية من عسكرية أو شعبية عددية. بل أن حتى القوة العسكرية لم تعد تقاس ببطولة العسكر، وارادتهم للتضحية بحياتهم في سبيل معتقدهم، بل أصبح لها مظاهر تقنية حديثة وذكية تتصارع الدول والجيوش على امتلاكها، لما لها من دور حاسم في أي صراع عسكري. ويطبق ذلك في مجالات مدنية أخرى كالإعلام والحضور الاجتماعي والثقافة والأدب والتأثير وتشكيل الرأي العام والصناعة والزراعة والتكنولوجيا والعلوم وغيرها. فهل طبق الحزب هذا النهج الشمولي، أم أنه حصر مفهوم القوة بمنطق الثأر والاغتيالات حيناً، والتربية على القدرة على التحمّل والمواجهة حتى الاستشهاد أحياناً، مع ما يرافق ذلك من شحن عاطفي لدى الأعضاء. فيما تخلت بعض القيادات والمؤسسات عن القوة المادية والصراع العسكري، حتى مع العدو، وعزلت نفسها في أبراج حفظ العقيدة وتسميعها، مما أدى الى الجمود والقصور والعقم.

في المقابل، وفي غياب قوة الفكر والعلم والتكنولوجيا، وسيطرة مجموعات عسكرية تؤلّه أي عمل عسكري على قيادة الحزب، بعد عسكرة الحزب في الحروب المتعددة، وبرغم ما رافق ذلك من بطولات وتضحيات، فقد سيطر على الشباب أحياناً هوس الانتماء في سبيل الاستشهاد، الذي هو قمة العطاء، كأن لا شيء يقوم به العضو بعد الانتماء سوى الانخراط في العمل العسكري والأمني حتى الاستشهاد. وهذه نسخة مشوّهة ومجتزأة عن مفهوم سعاده للقوة والصراع، حتى العسكري منه. ويترافق ذلك مع ثقافة تشبه تقافة الساموراي في اليابان القديمة، حيث يحق للساموراي، لأنه يدافع عن الأمة، القيام بما يحلو له من الأعمال، وله مركز اجتماعي شبه مقدس عند العامة، حتى لو ارتكب الموبقات. أين ذلك من نظرة سعاده العقلانية الهادئة البعيدة عن الغرائزية والتهور؟

فهو من جهة يشجع على فضائل التضحية الفردية: “مبدأ التضحية الفردية في سبيل خير المجتمع هو أهم مبدأ مناقبي قام عليه فلاح أي مجتمع متمدن أو متوحش.  والتضحية ليس لها شكل واحد لأنها ليست حالة شكلية، بل مبدأ عاما. فالذي لا تكون التضحية قاعدة عامة عنده لا يعرف البطولة الاجتماعية ولا يقدم عليها ففائدته للمجتمع قليلة أو سلبية. ومن أشكال التضحية تضحية الشهوات الحادة وتضحية الأنانية العمياء، وهذه التضحية صعبة جدا على الذين لم يروّضوا أنفسهم على الفضائل.  (الأعمال الكاملة 5، 2001، صفحة 147)

ومن جهة أخرى يدين التهور العاطفي والتضحية دون تخطيط وأهداف كبرى. فها هو يقول عن حرب فلسطين في 1948: “إنّ الوطنية عاطفة نبيلة، ولكن سياسة التضحية يجب أن تكون مخططة تخطيطاً دقيقاً، وسفك الدم ضروري متى كان وفاقاً لخطة دفاعية موزونة واضحة أهدافها العملية ومحسوبة مبرراتها التنفيذية. أما سفك الدم عن جهل للنتائج فنتيجته خسارة الأرواح وضياع الثروة والوقت. ليت العاملين في السياسات المحلية يدركون الحاجة إلى سياسة قومية تحفر خططاً عميقة في حياة الأمة وتكون اتجاهاً ثابتاً.” (الأعمال الكاملة 2، 2001، صفحة 188)

التربية والتثقيف

في معرض نقده لحالة الميعان التي سادت الحزب خلال غيابه في المغترب القسري، يقول سعاده: “إنّ أول خطوة كان يجب على الحركة السورية القومية الاجتماعية القيام بها لتتقدم، هي تعليم العقيدة السورية القومية الاجتماعية والغاية الرامية إليها، لأنها هي الحقيقة الأساسية التي بها نوجد شعباً وأمة ولها نعمل. كل عمل آخر من سياسة وتنظيم لا فائدة منه بدونها ولا يجدي القيام به إن لم يكن متفرعاً عنها وعائداً إليها. إنها محور الحياة والفكر الأساسي، فكل عمل يجب أن يدور عليها، ولذلك كان الغرض الأساسي من الحركة السورية القومية الاجتماعية جعلها عامة ومنتصرة في الأمة السورية وحيثما أمكن تحقيق رسالتها الاجتماعية وفلسفتها المدرحية. ولقد ظن بعض المغرورين أنّ العمل العقدي الأساسي كالبحث في الأمة وقوميتها وحقيقتها وأهدافها، أمر يمكن الاستغناء عنه والاستعاضة عنه بالمساومات السياسية المطوحة بالعقيدة القومية الاجتماعية وغاية هذه الحركة العظيمة فكادت القضية المقدسة تسقط من أساسها وابتدأ الميعان والفوضى يهددان الحركة بالتفكك العام”. (الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 229)

ويقول في مناسبة أخرى: “نحن نفكر في المسائل الكبرى. إننا نفكر في أنّ اقتصادياتنا يجب أن تنظَّم تنظيماً يكفل لنا الحياة. نحن عقيدة ثقافية اجتماعية اقتصادية سياسية، نعمل لهذا المجتمع لتوحيده من جميع الوجوه.(الأعمال الكاملة 2، 2001، صفحة 141)

إنّ عملية تطهير الحزب من نفسية المساومات والمضاربات والتسوية ستستمر، وستقضي على الانغماس السياسي الخصوصي قضاءً مبرماً فلا يبقى في الحزب غير: جنود عقيدة ونظام وإيمان بالنصر ـ جنود في كل عمل وكل اختصاص ـ جنود في الإدارة وجنود في الإذاعة وجنود في الثقافة وجنود في السياسة” (الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 216)

ولا شك أن الحزب في مراحل معينة أولى مسألة التثقيف موقعاً متقدماً من خططه، لكن ذلك تراجع مع الوقت، وأصبح انتماء الرفقاء يتم في الكثير من الأحيان بشكل سطحي. وضعف دور الحزب في مجالات البحث العلمي والابداع الادبي والابتكار العملي، وضمر عدد الأعضاء المرموقين في المجالات الفكرية والثقافية. ومع الوقت، وفي ظل ضرب جوهر نظام الأشكال، وتحوله الى نظام استبدادي خارج عن جوهر فكر سعاده الإداري والدستوري، وتفشي نفسية المساومات والمضاربات والتسوية، تفاقمت الأشكاليات الموروثة بين النظام الصارم والمبدعين وأصحاب المواهب.

كما أولى سعاده التربية مقاماً عالياً في عملية البناء الاجتماعي، وصرّح في مؤتمر المدرسين 1948 أن “القضية الأولى التي تواجه العقيدة القومية الاجتماعية هي قضية التربية والتثقيف، ـ قضية الصراع المميت بين تاريخ حديث وتواريخ دخيلة مستمرة ـ قضية الصراع الفاصل بين نفسية فتية تنظر إلى الحياة والكون والفن نظرة جديدة ونفسيات شائخة اعتادت النظر إلى شؤون الحياة والكون ضمن الحدود المغلقة التي تكونت فيها. فقضية الصراع العقائدي الذي أثارته الحركة السورية القومية الاجتماعية بتعاليمها الجديدة هي قضية صراع ثقافي تعليمي بين مبادىء الحياة الجديدة ومبادىء الحياة الجامدة” (الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 230)

وتابع “إنّ صلب المعركة ليس مع الذين انتهى تكوينهم النفسي على خطط منافية للعقيدة القومية الاجتماعية وللنفسية التي تتطلبها، بل في العمل مع الذين هم في طور التكوين النفسي، إنّ صلب المعركة هو في تثقيف نفسية الأحداث ومعارفهم في البيت وفي المدرسة الابتدائية والمدرسة الثانوية. وتستمر المعركة العقائدية ما وراء ذلك” (الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 231)

إذا ربحنا الأحداث ربحنا معركة العقائد ومعركة المصير القومي كله. فهدف مؤتمر المعلّمين السوريين القوميين الاجتماعيين السنوي هو: ربح الأحداث للنهضة السورية القومية الاجتماعية التي تشق طريق حياة جديدة للأمة السورية (الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 234)

ولذلك دعى في ذلك المؤتمر الى انشاء المدرسة القومية الاجتماعية، والمنهج القومي الاجتماعي، والتدخل في مراجعة مناهج الكيانات والمؤسسات التربوية فيها، لتنقيتها من كل ما يضر بالحقيقة القومية والوحدة القومية، وأشاد بدور المدرس القومي، واعتبره المقاتل في الصفوف الأولى، مشجعاً أكبر عدد من القوميين ليكونوا مدرسين، خاصة بعد أن تتكاثر وتنتشر المدارس القومية الاجتماعية، أو حتى في المدارس الموجودة. فهل أعطى الحزب التربية بشكل عام، والتربية الحزبية بشكل خاص، الاهتمام الكافي كونها القضية الأولى كما صنفها سعاده، وتشكل أساس معركة العقائد ومعركة المصير القومي كله؟ ويصبح هذا الكلام أكثر أهمية مع مرور الزمن، فكل تراخي في بناء الأجيال التي لم تكن قد ولدت بعد في زمن معيّن، يؤدي الى ضمور في حجم الأعضاء المتميّزين من أصحاب المواهب بعد عقود.

مرتكزات أخرى لنهج سعاده

عند قراءة سعاده بتعمّق، والبحث عن المزيد من مرتكزات نهجه، الذي اعتبره ضروريا لفهم المبادئ والفكر، وكيفية تطبيقه والتخطيط لتحقيق الغاية منه، نجد الكثير من الأساسيات سواء ابتكرها سعاده أو أعاد استخدامها كأساسات لهذا النهج. ومنها على سبيل المثال لا الحصر، إضافة الى ما تم عرضه أعلاه:

مواكبة التطورات العلمية والحياتية، الابداع، التفوّق، التميّز، الحداثة على أساس الايمان بالأصالة لا التنكر لها، التفكير العلمي والعملي والمجموعي، والنجاح القومي في مقابل النجاح الفردي، التفكير النقدي والعقلنة واعتماد العقل شرعاً أعلى، استبعاد المقدّس وعلمانية الحياة، حق التقدم وحق الصراع، الحرية بفهومها القومي الاجتماعي وحقوق الانسان الفرد وحقوق المجتمع، الاستقلال الفكري ورفض التبعية، التفاعل داخل المجتمع وإزالة الحواجز بين الطوائف والمذاهب، والتفاعل مع العالم دون انغلاق وانعزال ولا ذوبان وتبعية دونية، مكافحة الصراع الطائفي والمذهبي والعائلي والعشائري والقبلي والفردي والطبقي، وإحلال المحبة القومية بدل الحقد المتبادل بين الطوائف أو الطبقات، واعتبار أن زمن القطعان قد انتهى، وبدأ زمن الجماعة الحرّة المدركة، وترسيخ المناقب والعقلية الأخلاقية الجديدة التي اعتبرها أثمن ما يقدمه الحزب للأمة.

فهل اعتمدت مرتكزات النهج هذه في اساسات عمل وخطط نظام الأشكال، حتى يستطيع تحقيق نظام الفكر والنهج؟

في الختام، نستخلص أن نظام الفكر والنهج، الذي هو أساس نظام الشكل، لا يستقيم إن لم نفهم نهج سعاده مفهوماً شاملاً غير منقوص وغير مجتزأ وغير انتقائي. فالنهج يحدد كيفية فهم الفكر والتخطيط لتطبيقه وتحقيق غايته. ونظام الشكل، مهما كان بديعاً، يصبح بلا معنى اذا لم يفقه أهمية النهج والمقاربة والتخطيط لتحويل الفكر الى خطط ومشاريع عملية آنية، لها معايير للقياس وأهداف مرحلية ملموسة وقابلة للتحقيق، ومؤشرات لتطوير الأداء.

نحن اليوم نحتاج بلا شك الى تطوير نظام الأشكال، ليواكب تطورات العصر والعلم والتكنولوجيا والإدارة والاعلام والتربية والتنمية وغيرها. ولكن بالتوازي مع ذلك، أو قبله حتى، نحن بحاجة الى تحديد المرتكزات الأساسية لنهج سعاده ومقاربته للمبادئ التي وضعها، واعتبرها مرتكز انطلاق الفكر، لأن النهج هو الذي يصوب الاتجاه، ويسهم في تحديد الخطط والأولويات والقوة بمعناها الشمولي، التي تحرك النظام: “إنّ سرّ النجاح ليس في النظام بل في القوة التي تحرك النظام”. (الجمهور، بيروت، العدد 1937/1/15)

د. ميلاد السبعلي