انسحاب اميركا من اليونسكو خدمة لمصالحها ومصالح الكيان الصهيوني

تطالعنا الولايات المتحدة الأميركية كل يوم بقرار يثبت نهجها في تموضعها كدولة تبتعد شيئاً فشيئاً عن المجتمع الدولي وعن التفاعل مع مؤسساته الدولية التي نشأت في سبيل تقريب العالم من بعضه وحل قضاياه الخلافية باللجوء إلى القانون الدولي وتشريعاته.

في هذا السياق أعلنت الولايات المتحدة انسحابها من منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة (اليونسكو)، معتبرة أن الانخراط في المنظمة «لم يعد يخدم المصلحة الوطنية الأميركية»، وأن اليونسكو «تسعى إلى الترويج لقضايا اجتماعية وثقافية مثيرة للانقسام، كما تواصل تركيزها المبالغ فيه على أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، وهي أجندة عالمية وأيديولوجية للتنمية الدولية تتعارض مع سياسة «أميركا أولاً «في السياسة الخارجية». واعتبر البيت الأبيض في وثيقة تعرف باسم «ورقة حقائق»، أن مجلس حقوق الإنسان «لم يحقق» الغاية من إنشائه، زاعماً أنه «يستخدم ككيان لحماية الدول التي ترتكب انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان».

وسيدخل هذا القرار حيز التنفيذ في نهاية ديسمبر 2026. الجدير ذكره أن مجلس حقوق الإنسان الذي مقره باريس، تأسس بعد الحرب العالمية الثانية لتعزيز السلام من خلال التعاون الدولي في مجالات التعليم والعلوم والثقافة.

ليست هذه الخطوة الأولى التي تقوم بها الولايات المتحدة في إطار الانسحاب من مؤسسات دولية، إذ يواصل الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب بلاده من مؤسسات دولية ينتقدها منذ فترة طويلة. فقد سبق أن سحب الولايات المتحدة من منظمة اليونسكو خلال ولايته الأولى، وكذلك من منظمة الصحة العالمية ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة واتفاق باريس المناخي والاتفاق النووي الإيراني. إلا أن الرئيس الأميركي السابق جو بايدن ألغى هذه القرارات بعد توليه المنصب في 2021 لتعود الولايات المتحدة إلى اليونسكو ومنظمة الصحة العالمية واتفاق المناخ. وبعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بدأت الولايات المتحدة مرة أخرى الانسحاب من هذه الهيئات العالمية، وقرر بالفعل سحب بلاده من منظمة الصحة العالمية ووقف التمويل لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا».

ويؤكد القرار الحالي نهج ترامب في الانحياز التام للكيان الصهيوني خصوصاً حين نقرأ ما نقلته صحيفة «نيويورك بوست» عن مصدر مطلع أن ترمب قرر الانسحاب من اليونسكو، لما اعتبره ميولاً «معادية لأميركا وإسرائيل»، مضيفاً أن البيت الأبيض أدان تبني مجلس حقوق الإنسان قرارات ضد «إسرائيل»، وتحيزه المستمر ضدها، وتركيز إجراءاته عليها بشكل غير عادل وغير متناسب«، وأنه في عام 2018، أصدرت المنظمة قرارات تدين «إسرائيل» أكثر من سوريا وإيران وكوريا الشمالية مجتمعة.

وكان مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والذي يتألف من 47 دولة قد دعا لمحاسبة «إسرائيل» على جرائم حرب غزة وطالب جميع الدول بعدم تصدير الأسلحة إلى تل أبيب.

قرار الولايات المتحدة الانسحاب من «اليونسكو»، أفرح العدو الصهيوني إذ كان موضع ترحيب من وزير خارجيته جدعون ساعر الذي شكر واشنطن على «دعمها الأخلاقي وقيادتها»، واعتبر أن هذه خطوة ضرورية تهدف إلى تعزيز العدالة وحق «إسرائيل» في المعاملة العادلة داخل منظومة الأمم المتحدة، وهو حق كثيراً ما تم انتهاكه بسبب التسييس في هذا المجال. وهذا الموقف لا يجعلنا في موقع الاستغراب من كيان احترف خرق القوانين الدولية وعدم تطبيقها.

من جهتها أعلنت المديرة العامة للمنظمة الدولية أودري أزولاي أن اليونسكو استعدت لقرار الولايات المتحدة وأكدت أنه لن يؤثر مادياً بشدة على اليونسكو، مشيرة إلى أن المنظمة نوّعت مصادر تمويلها. وتجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة خفضت مساهمتها حالياً بنحو 8% من إجمالي ميزانية اليونسكو، بعد أن كانت 20 % تقريباً عندما أعلن ترامب انسحاب واشنطن منها خلال فترة رئاسته الأولى.

قرار الانسحاب الأميركي من منظمة اليونسكو شهد مداً وجزراً على مر السنوات إذ لم يكن ترامب أول رئيس أميركي يعلنه، فالرئيس الراحل رونالد ريغان قام بالخطوة في ثمانينيات القرن الماضي، متهماً المنظمة بأنها فاسدة ومؤيدة للاتحاد السوفياتي. وعادت الولايات المتحدة إليها في عهد جورج بوش الابن الذي قال آنذاك إن المنظمة أجرت الإصلاحات اللازمة.

هذه السياسة الأميركية المتأرجحة حيال عضوية واشنطن في المنظمات والاتفاقيات الدولية ينتج عنه، حسب الخبراء في الشؤون الدولية، فقدانها جزءاً كبيراً من نفوذها الدولي، كما أنه يهز ثقة المجتمع الدولي بها، ويوفر فرصة لتمدد النفوذ الصيني فيها، إضافة لما يتركه ذلك من أضرار اقتصادية ومالية واسعة، وتلقي من جهة أخرى بالضوء على عدم الاستقرار في السياسة الخارجية للولايات المتحدة التي اعتاد الحزبان الجمهوري والديمقراطي على التعاون بشأن خطوطها العريضة. إلا أنها منذ عام 2016 أصبحت علاقة واشنطن بالمنظمات الدولية غير مستقرة إلى حد كبير وفق الخبراء.

في خلاصة الأمر من المؤكد أن سلسلة انسحابات الولايات المتحدة الأميركية من المنظمات الدولية ستضر بمكانة الولايات المتحدة على مستوى العالم. وإذا كان الرئيس ترامب لا يهتم بهذا الأمر، فإن تدهور القوة الأميركية على المدى الطويل لن يفيد سياسة واشنطن الخارجية، وسيضر في النهاية باقتصادها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *