في القسم الأول (1 من 2) شرحنا موقف الاكليروس الماروني من تأسيس الحزب في الثلاثينات واعتباره تهديد وجودي للوطن المسيحي اللبناني وعدو للدينـ كذلك أضأنا على الاتصالات اللبنانية مع الوكالة اليهودية وخاصة البطريركية المارونية والقادة الموارنة التي توجت بمعاهدة في 1946، بالإضافة الى الاتصالات مع القيادات الشيعية والسنية ومنها رياض الصلحـ كذلك شرحنا كيف وجد سعادة نفسه في صراع مع الصهيونية، داخليا وخارجيا، منذ اللحظة الاولي لعودته الى الوطن في 1947]ـ
خطة التخلص من سعادة
الحركة الصهيونية وحلفائها استنتجوا ان التخلص من سعادة هو الحل الأمثل او الوحيد لوقف نمو وانتشار هذه الحركة السورية القومية الاجتماعية التي جمعت بين صحة العقيدة والإيمان والبطولة لكي توحد الامة السورية نفسيا وماديا وتدافع عن مصالحهاـ حسب الباحث شحادة الغاوي «ان قرار القتل اتخذ في الدوائر الصهيونية بعد فراغ سعادة من القاء محاضراته العشر، وتعاونت المخابرات الأميركية والفرنسية والإنكليزية على رسم خطته وتنفيذه»ـ في 30 آذار 1949 بدأ تنفيذ الخطة عبر الضابط في الجيش السوري حسني الزعيم الذي نفذ انقلابا دبرته المخابرات المركزية الأميركية بالتعاون مع السفارة الفرنسية في دمشق، حسب وكالة تاس السوفياتية وكما وثقها ناجي جرجي زيدان (مجلة سوريتي الالكترونية: 5 آذار 2013)ـ أهداف الانقلاب يمكن تلخيصها بثلاثة: 1- موافقة سوريا على اتفاقية «خطوط التابلاين»، 2- توقيع اتفاقية الهدنة مع إسرائيل، 3- اغتيال أنطون سعادة.
الضابط المخابراتي سامي جمعة يرفض في كتابه «أوراق في دفتر الوطن» ان استقبال حسني الزعيم لسعاده في 27 أيار ومن ثم في 15 حزيران كان لمواجهة رياض الصلح الذي رفض الانقلاب في البدايةـ يشرح جمعة ان المنسق الفعلي للانقلاب هو الملحق العسكري في السفارة الأميركية، الميجر ميد، الذي وضع السيناريو ’ السوري‘ لاغتيال سعادة ولم يطلع حسني الزعيم على كل تفاصيله والسيناريو مؤلفا من ثلاثة أجزاء، كما أوردها الباحث شحادة الغاوي عن سامي جمعة في كتابه «تاريخ استشهاد سعادة ..ـ وما بعده»
1ـ استقبال سعادة وإيواؤه في سوريا.
2ـ دفع سعادة على إشعال الثورة المسلحة في لبنان شرط ان تكون هذه الثورة محكومة بالفشل والإخفاق.
3ـ تسليم سعادة للسلطات اللبنانية لإعدامه.
بالنسبة للسيناريو اللبناني ليس عندنا تفاصيل موثقة لخطة ميد مع السفارات الأخرى لكن يمكن استنتاجها من الأحداث بما يلي:
1ـ الضغط العسكري والمعنوي على الحزب ل ’ توجيهه ‘لا علان الثورة على النظام اللبنانيـ هذا التوجه يشمل،
iـ توجيه اتهام للحزب القومي بالتعامل مع إسرائيل!
iiـ زيادة ضغط الدولة اللبنانية على الحزب القومي عبر مذكرات التوقيف والملاحقات والمداهمات لمراكز الحزب وبيت الزعيم وغيرهـ
iiiـ التنسيق مع البطريركية المارونية والاستعانة بميليشياتها الموالية لمهاجمة احدى مراكز الحزبـ
2ـ تقديم التسهيلات والاغراءات والاستشارات المشبوهة من المندسين في الحزب لإقناع سعاده بضرورة اللجوء الى الشام وإعلان الثورةـ (راجع كتاب الباحث شحادة الغاوي «تاريخ إستشهاد سعادة ..ـ وما بعده»)
تنفيذ الاغتيال
لتنفيذ هذه الخطة اتخذت الخطوات التالية بعد انقلاب حسني الزعيم:
1ـ في تقرير كتبه منفذ عام عكا محمد جميل يونس بتاريخ 13 أيّار 1949 ووجّهه إلى سعادة، جاء فيه: «إن منظّمة الفالانج [الكتائب] اللبنانية والمطران مبارك على اتّصال ومفاوضة مع إسرائيل لقلب الحكم في لبنان وإنشاء الوطن المسيحي واضطّهاد الفئات والطوائف الأخرىـ وقد اطّلعت من مواطنين على كتب توصية من المطران مبارك وسأحاول الحصول على نسخ منها»ـ ما نقله المنفذ يتطابق مع وثيقة لوزارة الخارجية الإسرائيلية بتاريخ 28 شباط 1948 عن زيارة لمبعوث الأسقف مبارك في 24 شباط 1949 (بدر الحاج، الحقائق والوثائق في إعدام أنطون سعادة (2/2))ـ السؤال الملح هنا هو هل يمكن ’ قلب الحكم في لبنان‘ بدون التخلص من سعادة وهل بحث وفد البطريركية وحزب الكتائب في هذه الزيارة عن دورهم في اغتيال سعادة.
2ـ تنظيم لقاء بين حسني الزعيم وسعادة في 27 أيار 1949 وحضره الأمين أديب قدورة الذي نقل ان حسني تحدث عن ضرورة قيام انقلاب في لبنان ليتوافق مع الحكم في الشام لكن سعادة رد بان الحل في لبنان يكون لنهوض الشعب بواسطة المبادئ القومية الاجتماعية وليس بتغيير عهود وسياسيينـ
3ـ على ما يبدو بان الاجتماع سرب الى الدولة اللبنانية، ولكن بالصيغة التي أرادوا لها ان تصل اليها وهي بان الحزب باشر بالتحضير لانقلاب مسلح في لبنانـ هذه التسريبات، بالإضافة الى اتهام الحزب بالتعامل مع إسرائيل، استعملت كمبررات للحكومة اللبنانية لوضع سعادة تحت مراقبة شديدة وحل الحزب وتوقيف المسؤولين فيه وذلك في اجتماع مستعجل لمجلس الامن اللبناني في 2 جزيران 1949 برئاسة الصلحـ الجدير بالذكر ان وثائق السفارة البريطانية لشهر حزيران 1949 تتضمن معلومات عن زيارة الصلح للسفير البريطاني وشكواه بأن حسني الزعيم يؤيد سعادة بقوة فطمنه السفير بان هذه العلاقة ستنتهي قريباًـ حسب الباحث شحادة الغاوي بان الصلح «كان مجرد أداة غير عارف بخفايا التخطيط والبرنامج الإنكليزي»ـ
4ـ بعد أن أبلغ وزير الداخلية جبرائيل المر (كما طلب منه) فريد صباغ، مفوض الاتصالات السياسية، بان القرار اتخذ في الحكومة بملاحقتكم وإبادة الحزب، أوعز الزعيم الى فريد صباغ الى الاتصال برئيس الجمهورية ورئيس الوزراء للاستفسار عن هذه الإجراءات التعسفيةـ صباغ التقى الشيخ خليل الخوري (نجل بشارة) للاستفسار عن القرار، وكان جوابه بعد الاتصال بوالده «إن مجلس الوزراء اتخذ قراراً بإنشاء مجلس أمن يترأسه رياض الصلح، ورياض هو المتحمس لملاحقتكم، والقضية تتعلق برياض الصلح ووالدي ليس بيده شيء، المراجعة يجب أن تكون مع رئيس مجلس الوزراء».
5ـ بعد شن حزب «الكتائب» هجوم على مطبعة ومكاتب جريدة «الجيل الجديد» في 9 حزيران في الجميزة وإحراقها، وسقوط 7 جرحى، اتصل الرفيق إدمون طوبيا بالزعيم هاتفيا ونقل له التالي (حسب تقرير الرفيق فريد صباغ): «أنا إدمون طوبيا يا حضرة الزعيم، أكلمكم من دار صهرنا خليل فضول ويوجد معنا هنا فخامة رئيس الجمهورية الشيخ بشارة نلعب الورق «بريدج»، وفخامة الرئيس استلم مخابرة هاتفية والمتكلم هو رئيس مجلس الوزراء رياض الصلح يدعوه بسرعة ليترأس مجلس الوزراء في القصر الجمهوريـ استغرب رئيس الجمهورية وقال: لماذا هذه السرعة يا دولة الرئيس؟ أجابه: يجب حضورك حالاً لجلسة استثنائية لأن أنطون سعادة أعلن التعبئة العامة في حزبه وقرّر القيام بانقلاب في البلاد، لذلك نرجو حضوركم وبسرعةـ وأضاف إدمون: عندئذٍ، ترك فخامة الرئيس السمّاعة وتوجّه نحوي وقال: يا إدمون، إن زعيمكم سعادة قرر القيام بانقلاب واستلام الحكمـ انهض حالاً واطلبه على الهاتف واستعلم منه عن صحة هذا الخبر، وقل له كي لا يفعل شيئاً من ذلك»ـ
الغريب في هذه الرواية ’ الشيقة‘ هو كيفية معرفة الرفيق صوايا بما قاله رياض الصلح لبشارة الخوري على الهاتف وهل كانت هذه المكالمة مدبرة من بشارة الخوري لكي يبعد بشارة الخوري الشبهات عن دوره في الاغتيال والقاء المسؤولية الكاملة على رياض الصلحـ
6ـ في مساء 15 حزيران جرى لقاء ثان بين سعادة وحسني الزعيم بعد ان التقى حسني بموشيه شاريت، وزير خارجية إسرائيل، في الصباحـ حسني بحث أمور عدة في لقائه الأول مع شاريت من بينها كيفية دفع أنطون سعادة على إشعال الثورة المسلحة في لبنان بهدف القضاء على سعادة وحزبه (جريدة المحرر العدد 200 بتاريخ 10– 16 تموز 1999، مقابلة مع الضابط سامي جمعة)ـ في لقائه الثاني المسائي مع الزعيم أكرمه وأهداه مسدساً ووعده بانه سيمده بكل ما يحتاج من سلاح ومال، إذا أقدم على القيام بثورة ضد الحكم اللبناني (ناجي جرجي زيدان، مجلة سوريتي الالكترونية: 5 آذار 2013)ـ الجدير بالذكر ان عادل أرسلان، وزير خارجية سوريا آنذاك، قال في مذكراته في 1950 “ان حسني الزعيم هو من حرّض أنطون سعادة على القيام بثورة على النظام اللبناني”ـ الملفت للانتباه ان سعادة أصدر بيان في 16 حزيران ولم يعلن الثورة كما طلب منه حسني وربما كان بانتظار التأكد من دعمه له.
7ـ بعد تردد كبير وربما لمعلومات وصلته بان حسني الزعيم بدأ يفي بوعوده، أعلن سعادة الثورة القومية الاجتماعية الأولى في 4 تموز 1949ـ لم يكن سعادة يعرف انه بذلك وقع في المصيدة التي رسمها له موشيه شاريت والميجر ميد بالتعاون مع عملائهم في الشام ولبنانـ في 6 تموز دعى حسني سعادة الى اجتماع وعند وصوله اُلقي القبض عليه وسُلم الى السلطات اللبنانية، فمضى بشارة الخوري ورياض الصلح على مرسوم إعدامه بعد محاكمة صورية دامت اقل من 48 ساعة ونفذ الحكم في فجر الثامن من تموزـ
ان اغتيال أنطون سعادة أجهض أملاً كبيرا لأمتنا بالنهوض وتغيير وجه التاريخ بعد ان مرت في عصور ظلامية دامت أكثر من ألف عامـ لقد عرف الصهاينة وحلفائهم مدى الخطورة التي يمثلها سعادة وحزبه فقضوا على ثورته ونهضته في المهدـ البطريركية المارونية بشقيها السياسي المتمثل ببشارة الخوري والعسكري المتمثل بحزب الكتائب اعتبرته تهديد وجودي لمشروع الوطن القومي المسيحي المنغلق على محيطه الطبيعي فحاربته بكل الوسائل منذ تأسيس حزبه حتى استشهاده، ولو تسترت وراء عباءة رياض الصلح في عملية إعدامهـ الزعامات المحلية الاقطاعية والطائفية رأت فيه تهديدا لنفودها وبلطجيتها على الشعب وكان على رأس هؤلاء رياض الصلح الذي سار على الدرب الذي رسمته له السفارات في خطة الإعدامـ كذلك فعل حسني الزعيم الذي نفد ما رسم له بدقة ليحافظ على منصبه.
نعم لقد أجهضوا اهم محاولة لإنقاذ الامة السورية وربما العالم العربي لكنهم من ناحية أخرى لم يصلوا لكل أهدافهم التي ما زالت هي هي في الجوهرـ ما زال اهل جبل عامل متمسكين بالبقاء في ارضهم وما زال شعبنا يقاوم الدعوات لوطن قومي مسيحي (مصغر) ودرزي وسني وشيعي وكردي وغيره وحزب سعادة باق باق.
راجي سعد ـ تورتنو، كندا