طالما عرفنا أن الثقافة هي الدافع الكامن وراء السلوك، فردياً كان أم جماعياً أو مجتمعياً، و ما نقصده من مفردة «الثقافة» هذه هي مجموعة المعارف التي تقبح أو تحسن هذا الفعل أو ذاك، وهي ممارسة عمومية لكل البشر على اختلاف مشاربهم، وليست محصورة «أي الثقافة» بفئة من المشغولين بالمواضيع الثقافية ومنتجاتها ومنتجيها، حيث نصوب كلامنا نحو الشعب كله بكافة أطيافه وشرائحه وطبقاته وبيئاته، فالشعوب تمارس حياتها اليومية بناء على معارفها حول كل الأشياء اللازمة للحياة والبقاء فيها واستمرار هذا البقاء، وفي هذا السياق تظهر الفروقات الثقافية بين الأفراد أو الجماعات، التي يمكن معالجتها باتجاهين هما التقبيح والتحسين، وفي هذه المعالجة يكمن موضوع التطور السلوكي، ليتحول السلوك نفسه إلى مرآة تعكس الهوية، كما تعكس سيرورة تطور هذا السلوك ضمن معايير البقاء والاستمرار كمصلحة بشرية يتساوى فيها جميع البشر، كإمكانيات تبذل ما في وسعها لإسعاد هذا الاجتماع، الذي أدت إليه السلوكيات، فالبشر إمكانيات لا بد من استثمارها في المصلحة العمومية، فإذا كانت الثقافة التي تقف وراء السلوك مقبحة أو قبيحة، فستؤدي بالضرورة، إلى طمر الإمكانيات ودفنها، وجميع هذا الكلام هو قبل طرح مفهوم الدولة ومسؤوليتها عن الثقافة العمومية، تلك الثقافة التي قد تؤدي إلى الخراب العام ( ومن ضمنه السلطة ) في حال رعت الدولة الخواء أو الانقسام أو العداء الثقافي، التي تتسبب بحرمان الإمكانيات البشرية من إخراجها كمشاركة في إذكاء العيش الاجتماعي وارتقاءه، فالصمت الثقافي المقابل للخواء، ليس قبولاً وتسليماً بمقتضيات دولة أو سلطة، وكذلك الانقسام على أساس ثقافي ( والطائفية واحدة من أنواعه)، وأيضاً العداء الثقافي الذي يتمثل بإرادة الحوار الدائم مع المختلفين، مهما كان هذا الخلاف أو الاختلاف تافهاً أم عظيماً، وهذا يحتاج إلى تطور سلوكي بالضرورة، إذ لا معنى للتغيير، إذا كان يماثل الذي قبله، فما بالنا إذا كان أسوأ من سابقه؟.
الخواء والانقسام والعداء، هي حفر وأفخاخ مستترة ولكنها موجودة، وقد تظهر بأي لحظة، مفشلةً الوجود الاجتماعي حكاماً ومحكومين، فتسييد ثقافة الميليشيا، يحتم وجود ميليشيات متقابلة طال الزمن أو قصر، فالميليشيا في معيار التقبيح والتحسين هي حل استثنائي مكروه، إلا في حالة الاضطرار المؤقت، وإذا انتصرت ومن ثم استمرت، فهي تطلب وتدعم ثقافة الميليشيا بالعموم، وبالتالي إباحة الإنموذج الثقافي للمنتصر للعموم، وقد شاهدنا التجربة الإيرانية في استمرار الميلشيا كعنصر رديف «للدولة» أو «السلطة»، وعلينا ملاحظة الفارق بينها وبين التجارب الأخرى كتطور سلوكي (ماليزيا، كوريا الجنوبية، البرازيل …إلخ)، وتطور الميليشيات ضمن ثقافة التنافس العدائي، لا يضمن أية نتيجة إلا الخراب وتفكك أيديولوجياتها، في المعايير المعرفية الحالية، ولكن الانتباه لهذه الخطيئة الفاحشة قد يتطلب أجيالاً من الدماء والكوارث، هذا في مثال واحد هو(الثقافة الميلشياوية)، فكيف إذا راجعنا الآلاف من نماذج التوقف عن التطور السلوكي وتفاصيلها في جنبات الاجتماع البشري، الذي سيتوقف بالضرورة عن الانتقال إلى مجتمع، ما يعني تماماً انتفاء المصلحة العامة بالوجود والبقاء والاستمرار، وعندها لا بأس بأي حل يضمن في الحد الأدنى بقاء الناس على قيد الحياة فقط ، فالخطيئة المشار إليها تشبه كرة الثلج أو المتوالية الحسابية، تتراكم كما حبات القمح المضاعفة على رقعة الشطرنج.
دون الكثير من الغوص والتمحيص، نستطيع أن نلحظ أنموذج ثقافي فعال وشغال ومجرب يمكنه معالجة عوامل تفتيت الإمكانية البشرية وإنقاذها من الصمت، والانقسام، والعداء، ألا وهي الثقافة الحقوقية، الثقافة الوحيدة القادرة على حفظ الإمكانية ومجاراة العصر في نفس الوقت، وهي ثقافة معلنة ومفهومة ويمكن التفاهم معها بواسطة القوننة، باتكاء على دستور واضح بالقراءة والترجمة والممارسات والمسؤوليات، فالقوانين مهمتها تيسير سبل استثمار الإمكانية البشرية في خدمة الجميع بالتساوي، ولا يبقى للإيديولوجيات إلا الفلكلور وممارساته، فما دامت الثقافة الحقوقية هي الناظم الحاسم في التطور السلوكي، كانت المخرجات إيجابية من ناحتي المردود، واستمرار التطور، ودون الركون إلى هذه الثقافة والاعتماد عليها كلياً ودون استثناءات، وحقنها في أوردة الاجتماع البشري، فالخطر سوف يستمر ولسوف يدمر بقية «الثقافات» الإيدولوجية المعول عليها في التطور السلوكي لاجتماعات ما قبل المجتمع، واعتماد الثقافة الحقوقية هو الحل الوحيد لبقاء الاجتماع البشري موحداً ولو في حده الأدنى، تحضيراً لتحضره ودخوله عصر المجتمعات.
في البلاد السورية، وفي الشام كمثال، بدأت مرحلة موات التطور السلوكي منذ الوحدة الشامية الناصرية، التي سحبت التداول بالثقافة الحقوقية كمنظم للعيش الاجتماعي ( سياسي، اقتصادي، حقوقي، ثقافي ، إعلامي)، وكلف هذا السحب بالإضافة لهزيمة 1967 ، توقف السلوك الإنتاجي حتى يومنا هذا، حيث دخلت الشام في خلطبيطة حقوقية صنعت كل أنواع العقم، المبدد للإمكانية البشرية في إعمار الأرض، فلا تحرير ولا عيش كريم، ولا حياة مصانة، ولا كرامة متوفرة، أفما آن الأوان لهذه الناس أن تحكم الثقافة الحقوقية في سلوكها لسبب بسيط و وحيد …………. التحضّر!!!!!.