مع الضجيج الثقافي وبالتالي السلوكي، حول الخصوصية التي تنتاب الكثير من صنّاع المحتوى، في البلدان السورية، حيث الساحة التي تجري بها معارك الرأي والرؤية، حول الحداثة، وما يتبعها من تحور سلوكي تكمن وراؤه ثقافة تدعي الخصوصية في التعامل مع القيم الإنسانية العليا، التي طورها البشر عبر تجريب أنماط ثقافية، ترتقي بارتقاء البشرية ومنتجاتها المادية والمعنوية، ولم يحدث أن يحصل خواء ثقافي من خلال ممارسة الأنماط المطورة للفعل الاجتماعي، فالقيم الإنسانية واضحة تمام الوضوح، والخير والشر معروفان بعلانية بعد هذا الكم الهائل من دراسات الأنماط الاجتماعية وأداءها المعرفي في الإنتاج المولد للهوية، فعلى الرغم من ثبات التسميات واستمرارها، إلا أن جوهر الهوية مرتبط بالإنتاج، فكلما زاد الإنتاج بنجاح حصل الاجتماع البشري على مزايا خصوصيته وهويته، إذ لا خصوصية أو هوية يمكنها أن تنوجد، دون مقارنة مع الآخرين عن طريق التنافس الإنتاجي، وإلا لمن سوف يشهر هؤلاء أعضاء الاجتماع البشري هويته، التي يجب أن تكون مفهومة بالضرورة ويمكن التفاهم معها بالاتفاق مع القيم الإنسانية المتصالح عليها في العصر المعاش، وإلا كيف سيشهرونها سوى بالإنتاج ؟.
والإنتاج الإبداعي هو أحد أنواع الإنتاج الأساسية، لأنه وبالضروة يقترح أنماطاً ثقافيةً تتطلب تغييراً في السلوك الاجتماعي يوصل إلى إشهار الهوية، أو إعلان ممارسة الخصوصية، دون أن تشكلان خطراً على الآخرين، إن كان من داخل الاجتماع البشري أو من خارجه، لتتكثف هذه المقترحات لتتمخض عن ثقافة حقوقية توحد الداخل وتتعامل مع الخارج بتنافسية خالية من العداء، والعداء وإلغائه هو بيت القصيد في كل دراسة أو إبداع اجتماعي، فالعداء هو إلغاء للآخر المطلوب أن تشهر الهوية أمامه، وإلغاء الآخر هو إلغاء للذات بالضرورة.
وحتى لا نذهب باتجاه الجانب المظلم (العداء) من موضوعة الهوية، وادعاء أن مقترح ربط الهوية بالمصالح غير مناسب لخصوصيتنا مها كان من تجارب مجتمعية أفضت بجدارة إلى الإنتاج، لأنها من إنتاج الآخرين، وهم بوصفهم هذا لا يتناسبون مع أطروحتنا التي نروم ممارستها، لذلك علينا الاتكاء على مقترحاتنا الثقافية من رحم اجتماعنا، وهنا لا أريد الإطالة في شرح المقترحات الداخلية لحل أزمة اجتماعنا البشري في هذه البلاد وكمياتها، لذا سأكتفي بالإشارة إلى كتابين مهملين على الرغم من شهرتهما الأسمية، ولكن في الواقع لا صدى لمقتراحاتهما في أحوالنا التفكيرية والثقافية، على الرغم من إنتاجهما «المحلي» وبلغتنا نحن، وطالما تبجحنا بوجودهما وإنجازاتهما تجاه الآخرين في هذا العصر والدنيا.
الأول : مقدمة ابن خلدون، الذي ندعي بفخر أنه أثر في علوم الاجتماع والسياسة في العالم، وحول مجرى التفكير وصولاً إلى عصر النهضة الأوربية المتفوقة علينا بالإنتاج، ولكنه مهمل بين ظهرانينا، لا يكاد يكون له أي أثر في ممارستنا للسياسة والاجتماع وعلاقتهما ببعضهما، فابن خلدون يدخل في مجال العمران (النهضة) وخرابه، بمعنى أن الجميع الاجتماعي سوف يدفعون الثمن، بخراب عمرانهم ليتحولوا إلى هيولى غير معرّفة، وليس أدعى لهذا الخراب إلا الظلم (العداء) «الظلم لا يؤذن بخراب العمران فقط بل يسرّع به»، والظلم هو عداء للمساواة التي لا يقوم عدل إلا بها، كمرحلة أولى لتأسيس «المجتمع/ العمران»، وعليه فإن الأخطاء السياسية والاجتماعية لن ترحم الأنواع التي هي أقل من مجتمع في هذه الدنيا والعصر، لن ترحمه من الخراب والتخلف بالإنتاج . يبدو لي أن تعميم دراسة ( مقدمة ابن خلدون)، بوصفه كتاب من إبداعنا وليس مستورداً، ولا مفروض علينا لا بل جعل هذه المقدمة في المنهاج التعليمي، هي خطوة جادة تجاه مسعى الوجود، الذي يعتمد كلياً على المعرفة، وإلا فالخراب.
الثاني : وهو ما نفخر به أيما فخر، هو ( طبائع الاستبداد) ومن إنتاج أحد أهم مفكرينا المحليين (عبد الرحمن الكواكبي) الكتاب الذي ربما ما زال ممنوعاً في جلّ الأقطار السورية، والذي أفصح أن الاستبداد وراء كل علة وطنية أو قومية، وعلى الحكام وعيه قبل المحكومين، كي لا يصلوا إلى الفشل، ومن المستغرب أن لا يكون هذا الكتاب من ضمن أولويات التعليم عندنا، فهو من إنتاج فكر محلي الإبداع والهدف، ولكنه بعيد عن الثقافة العامة، بسبب أن الكواكبي توجه به إلى الحكام أولاً ليتحرروا من أمراضهم السياسية، إذ يقول « إذا كان الاستبداد مرضاً فإن الدواء هو الحرية بجرعات متزايدة» فالحرية ضمانة الصدق للذات والمسعى، وأظن في هذه الجملة تصويب للحكام، فعليهم أن لا يخافوا الحرية، وإلا سوف تتحول مناصبهم إلا رماد، و وسيفضي المسار إلى حكام أكثر استبداداً منهم، وفي هذا خطر على العمران، أو الوجود نفسه، فالعراق مثالاً، لم يفن فيزيائيا، ولكن عمرانه أصبح في الحضيض ولن تقوم له قائمة إلا بوأد الاستبداد، واللجوء إلى المساواة المولدة للعدالة. وأرى أنه على كل السوريين في كافة أقطارهم دراسة هذا الكتاب لتقييم أنفسهم، لمعرفة أين يقعون من الاستبداد، في كفتيه الحكام والمحكومين.
علنا أكتفينا من أهزوجة خصوصيتنا، فهناك من لدنا من وصّف خرابنا، واقترح العلاجات لذلك المرض العضال الذي يتجلى بعدم تحقيق الشبع والمنعة. ومع هذا فإن من يعتقد بفرادته سوف يبقى خارج التحضر، فالحضارة بطبيعتها تكاملية، ومن لا يستطيع المشاركة والمساهمة، سيسقط حتماً من قوائمها.