فجر الثامن من تموز عام 1949 لم يكن فجراً عادياً…
ذاك الفجر لم يكن موعداً لإعدام رجل فقط، بل كان اغتيالاً معلنًا للفكر، والكرامة، والنهضة، تحت عباءة «القانون».
كان أسرع تنفيذ لحكم إعدام في التاريخ، وأسرع محاكمة عرفها مسرح القضاء المهزوم.
في ذلك الفجر، أعدموا أنطون سعاده لأنه آمن بأمّته، فحاول أن يوقظ الروح القومية السورية في نفوس أبنائها من فلسطين إلى لبنان، ومن الشام إلى الجنوب.
جريمته أنه لم يكن مجرد مفكر، بل كان رجلاً يَفعل ما يقول… وذاك ما أرعبهم.
آمن سعاده أن عدونا الأول هو اليهودي، وأن لا خلاص للأمة إلا بوحدتها الكاملة في وجه المشروع التوراتي الممتد من النيل إلى الفرات.
آمن أن التقسيم، والطائفية، والاستعمار المقنع، ليست سوى أدوات لخدمة حلم «إسرائيل الكبرى».
فكان استشهاده محاولة يائسة لاغتيال هذا الفكر… لكنهم لم يدركوا أن الأفكار لا تُعدم.
في لحظاته الأخيرة، لم يطلب الزعيم شيئاً سوى قلماً وورقة لكتابة كلمته الأخيرة… فرفضوا.
لم يسمحوا له بوداع زوجته وبناته… ومع ذلك واجههم بثباتٍ عظيم.
قال:
«لا يهمني كيف أموت بل من أجل ماذا أموت… كلنا نموت، لكن قليلون من يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة.»
«هذه الليلة سيعدمونني، أما أبناء عقيدتي فسينتصرون، وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي.»
طلب أن يُنزع الغطاء عن عينيه، ليرى رصاص بلاده يخترق جسده، فقيل له: «النظام يفرض ذلك».
فأجاب: «إني أحترم النظام.»
وقبل أن يُعدم، طلب بلطف أن تُزال «بحصة تحت ركبته» ضايقته، ففعل أحدهم ذلك… فشكره.
فكتب سعيد تقي الدين بعد ذلك: «عجبتُ لمن قال لجلاده: شكراً.»
اليوم، وبعد 76 عامًا، يثبت التاريخ أن فكر سعاده كان نبوءة أمة:
– غزة تُباد بصمت العالم، ويُقتل فيها الأطفال والنساء لأنهم يتمسكون بأرضهم…
– سورية جُرحت بفعل الإرهاب التكفيري الذي خُلق وصُدّر إليها لتفتيتها، وتحويلها إلى كانتونات دينية ومذهبية.
– لبنان خُنق اقتصاديًا وسياسيًا لأنه يحتضن مقاومة أذلّت العدو.
– اليمن المحاصر، قاوم فأسقط أسطورة السلاح الأمريكي.
-وفلسطين… ما زالت تنزف، لكنها لم تنكسر.
– أما «إسرائيل» التي حذّر سعاده من مشروعها، فقد أصبحت صديقةً للبعض، وصارت «شريكة أمنية» لأنظمةٍ تدّعي الإسلام والعروبة.
ولكن في المقابل، نرى اليوم من أبناء الحياة من يواجه:
– في غزة… أبطال نحتوا المجد بالصواريخ والأنفاق والثبات.
– في لبنان… مقاومون يزرعون الرعب في قلوب الجنود الصهاينة.
– في سورية… من قاتل الإرهاب والاحتلال معًا.
– وفي اليمن… من لقّن المعتدين دروس الصبر والمقاومة.
يا زعيمنا… نعم، جسدك مات، لكن فكرك اليوم أكثر حياة.
كل ما حذرت منه وقع، وكل من حاربتهم عادوا بثياب جديدة، لكننا أكثر يقيناً اليوم أن وحدتنا هي الخلاص.
لقد قلتَ:
«إن فيكم قوة لو فعلت لغيرت مجرى التاريخ…»
وها نحن نرى هذه القوة تفعل…
ترفع الرأس في غزة، وتزلزل الشمال في جنوب لبنان، وتثأر في اليمن والعراق.
لأننا نؤمن، كما آمنت، أن الموقف حياة… وأن الأمة التي تريد الحياة لا تخشى الموت.
فيا زعيمنا…
تحيا أمتنا، ويحيا فكرك، ويبقى حزبك…
باقٍ… باقٍ… باقٍ.