أول ما يلفتنا في هذا الكتاب هو جرأة الطرح وخطورته معاً في السياقين الديني والسياسي.
أولًا: الهدف من الكتاب
يبدو واضحًا من عنوان الكتاب ومقدمته أن الهدف الأساسي هو نقد الفكر الديني كما هو وارد في كتابي التوراة والإنجيل، وصولاُ الى تحليل نشوء ما يُعرف بـ« المسيحية الصهيونية» التي يعتبرها الكاتب تأويلاً سياسياُ للدين منذ أن عمدت الكنيسة الى تبني كتاب التوراة وإعتباره مقدساُ رغم خرافاته وجرائمه ورذائله. فالكتاب ليس بحثأ في الدين بقدر ما هو دراسة نقدية للمقدّس وربطه بالواقع السياسي الحالي، لا سيما في دعم الغرب «لإسرائيل» وتبرير الاحتلال والظلم والقتل تحت غطاء ديني.
ومن أجل ذلك يعمد المؤلف على تنزيه «القداسة» من الخرافة ونفي القداسة عن الخرافات، وفضح كيفية توظيف الدين في السياسة، وصولاُ الى تفكيك أيديولوجيا دينية متغلغلة في الوعي الغربي، ومؤثرة على السياسات العالمية تجاه بلادنا السورية بشكل خاص وقضايا الشرق الأوسط بشكل عام.
ثانيًا: في التحليل الديني والفلسفي واللاهوتي.
1 ـ في البعد الديني:
الكتاب يتجرأ على تفكيك السرديات التوراتية والإنجيلية، ويصف أجزاء منها بأنها «خرافات مقدسة»، ويفنّد أخطاء الربط اللاهوتي بين المسيحية واليهودية من خلال اعتماد الأناجيل على التوراة، معتبراً ذلك تشويهاً لرسالة يسوع وتزويراً لها.
2 ـ في البعد اللاهوتي:
يحاول الكاتب إعادة تعريف اللاهوت المسيحي إنطلاقاُ من تعاليم يسوع الحقيقية، لا كما قدّمته الكنيسة منذ العهود الأولى عبر الأناجيل الأربعة، أي أن اللاهوت الحقيقي ليس كما بنته الكنيسة على الأسفار العبرية (كما جاء في الكتب…)، بل كما نطق به يسوع كدعوة إنسانية كونية مناقضة لمفهوم الإله الخاص للشعب الخاص. وفي هذا السياق يقدّم الأستاذ الغاوي وقائع عن تاريخ العلاقة بين الكنيسة والسلطة في أوروبا وتدخّل هذه في شؤون تلك وتأثيرها على قراراتها في شؤون الدين والإيمان
3 ـ في البعد الفلسفي:
هناك تساؤل فلسفي واضح في الكتاب حول العلاقة بين الأسطورة والحقيقة، والمقدس والمدنّس، والدين والسياسة. الكاتب يتبنّى موقفًا نقديًا جذريًا تجاه مفهوم «الإله الخاص»، مقابل «الإله الكوني»، ومفهوم «السلالة المباركة» مقابل الإنسانية المتساوية، وهو بذلك يطرح نقدًا صارماً للسردية التوراتية التي تحتكر الله لشعب معين، ونقداً أشدّ لتبنّي الكنيسة لهذه السردية وتقديسها.
ثالثًا: في أهمية الكتاب وجرأته
الجرأة تكمن في نقده العلني لمتن ديني مقدّس لدى ديانتين عالميتين (اليهودية والمسيحية)، وهو أمر غالبًا ما يتحاشاه الكثيرون خوفًا من اتهامات العداء الديني أو اللاسامية.
والأهمية تكمن في نبش التراث الفلسفي والأدبي للسوريين منذ عهد السومريين والبابليين والكنعانيين، وتقديم مقارنات تثبت أن هذا التراث هو مصدر الكثير من المفاهيم المسيحية المناقضة للمفاهيم التوراتية، مثل القيامة والحياة بعد الموت والعذراء التي تحبل من الروح من دون رجل، كما لغز اليوم الثالث وكيف أن الإله يقدم نفسه فداء عن الشعب بدل الذبائح التوراتية التي تضحي بافراد ا لشعب إكراماً للإله.
الكاتب يفتح الباب أمام إعادة قراءة التراث الديني بعيون عقلانية وإنسانية، وهو ما يحتاج إليه العالم اليوم لمواجهة التطرّف الديني والسياسي معًا.
رأيي في الطرح والكاتب
الأستاذ شحادة الغاوي، بطرحه هذا، يسير على خطى مفكرين كبار مثل أنطون سعاده، نصر حامد أبو زيد، وجون شيلبي سبونغ، الذين دعوا إلى قراءة نقدية عقلانية للكتب المقدسة. لا شك أن الكتاب ينتمي إلى تيار فكري نادر في الوطن السوري والعالم العربي المعاصر، وهو التيار الذي يربط نقد الدين بنقد السلطة والسياسة، وينشد تحرير الوعي الجماعي من أسر النصوص غير المفحوصة.
لكن، وبالرغم من القيمة الفكرية العالية لهذا الكتاب، يجب التعامل معه بحذر منهجي، لأن نقد الأديان من دون فهمٍ معمقٍ لتاريخ التدوين الديني وظروفه قد يقود إلى اختزال وتعميم مخل. وبرأيي أن الكاتب قد تنبه لهذا الأمر وحاول تتبع مراحل هذا التاريخ منتقداً ومشككاً في الأسباب المعلنة لتأخر كتابة الأناجيل الأربعة لأكثر من نصف قرن بعد موت وقيامة يسوع، كما على إقدام الكنيسة على إخفاء وإتلاف نحو ستة وثلاثين إنجيلاً كانت قد كُتِبت قبل الأناجيل الأربعة، كما إقدامها على إحراق الكتب العلمية والتاريخية والأدبية والفلسفية التي كانت متوفرة لأن «في التوراة غنى عنها»!
والمؤلف تنبه ايضاً لخطأ تحميل التوراة أو الأناجيل وحدها مسؤولية ولادة المسيحية الصهيونية ولم يتجاهل العوامل الإقتصادية والجيوسياسية المعقّدة والمصالح المادية للدول القوية المسيطرة، وقد قال في كتابه أنه ترك تلك العوامل لغيره ممن هو مؤهل أكثر منه للبحث فيها.
وفي الختام، فإن الكاتب نجح في اختيار الموضوع، وإن الكتاب جاء ليمثل مساهمة فكرية جريئة ومهمة في مشروع نقد الفكر الديني- السياسي، وينبغي اعتباره نداءً لتأسيس لاهوت جديد قائم على قيم الإنسان والعقل، وليس على التأويلات المتأثرة بالتحالفات العقائدية والسياسية. إنه صوت حرّ في زمن تتماهى فيه المؤسسات الدينية مع أجندات الهيمنة السياسية والمصالح المادية.
بقلم عماد برّو ـ سدني ـ أستراليا