هجرة الأدمغة والشباب

الحلقة الخامسة: ما الفائدة المادية من هجرة الادمغة والشباب؟

لو وضعنا، جانبا، المقولة الأساسية في أن الانسان هو أغلى مورد طبيعي، وأثمن ثروة وطنية، فماذا يبقى لنا من دراسة ظاهرة هجرة الأدمغة والشباب المنتج، غير البحث في فائدة « العائد المالي» من هذه الهجرة وتأثيره في العملية الاقتصادية للدولة؟

      لبنانيا، تشير الدلائل الاحصائية الأخيرة التي تعود الى نهاية العام 2007 (جريدة « السفير»، تاريخ 19 ـ 12 ـ 2007 )، وهي لم تتبدّل اليوم الى أن العنصر الشاب يشكّل 80% من مغتربي لبنان، من بينهم 50% من الجامعيين، في حين تصل نسبتهم بين المقيمين الى 22% فقط، أما السبب الرئيسي في هجرة الشباب فهو غياب فرص العمل الملائمة، وارتفاع سوق البطالة المحلية.. وفي لبنان أزمة بطالة حقيقية، بطالة بين المتعلمين.. وهذه الأزمة قديمة تعود الى فجر الاستقلال، وقد نبه الى خطورتها مدير عام التربية جوزيف زعرور منذ أكثر من أربعين عاما ووصفها بالمرض الذي يهدّد المجتمع بأبشع الأزمات ورد زعرور ذلك الى أنه في نهاية كل عام مدرسي تزداد صفوف أولئك الذين لا يجدون عملا يتناسب مع الحاجات الحقيقية للبلاد، ويبقون عالة على أنفسهم وعلى المجتمع الذي يتحمل وجودهم، ورأى زعرور أن الحل هو في إطار تخطيط تربوي يهدف الى توجيه المناهج الدراسية مع ما تتطلبه مقتضيات العمل والحاجات الاقتصادية والاجتماعية. فهل أصبحت جامعاتنا اليوم مصنعا للبطالة والهجرة؟ ان لبنان يضخ الى سوق العمل سنويا أكثر من اربعين ألف طالب عمل، وتضخ سوق العمل الى خانة البطالة حوالى 14 الف عاطل من العمل سنويا أى ما يقارب 28% من مجموع قوة سوق العمل السنوية، علما ان المسموح به عالميا لا يجوز ان يتجاوز ال 6 %، بالإضافة الى البطالة المقنعة، والى نسبة 35% من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر .

إن مجرد النظر الى كثافة هجرة العنصر الشاب التي يشهدها لبنان تعني تفريغ البلد من طاقاته الانتاجية، وهذا الأمر يترتب عليه أيضا خسارة مادية كبيرة، وعلى ذلك، يورد د. بطرس لبكي المثل الآتي: ان الشاب حين يعمل في لبنان يتقاضى 500 دولار، يقدم قيمة مضافة للاقتصاد تساوي خمسة أضعاف راتبه لجهة الرسوم والضرائب التي يدفعها، وأرباح الشركة حيث يعمل وغيرها من الأمور.

      ويؤكد لبكي من جهة أخرى أن أموال الاغتراب لا تساهم في نمو الاقتصاد، فهي من جهة تساوي الأموال المحولة من الأجانب في لبنان الى الخارج، ومن جهة أخرى لا تساهم في نمو الدخل الوطني لأنها لا تستثمر في القطاعات المنتجة.

      ويرى د. رياض طبارة أن الاستثمار في الأشخاص لناحية تعليمهم، وتدريبهم تقطفه بلدان أخرى، واذ ما أخذنا الولايات المتحدة مثلا فإن ربحها في الأدمغة واليد العاملة الكفؤة التي تصلها من لبنان يفوق كل ما تقدمه من مساعدات لنا بعشرات المرات.

      أما د. جواد عدرا فينبه من التأثير السلبي للهجرة على عنصر الانتاجية، خصوصا ان عددا من الشباب يعتبر نفسه مقيما مؤقتا في بلده، فيعمل بدون تخطيط للتطور، وهو بانتظار تأشيرة الهجرة. ويؤكد عدرا أن أموال المغتربين افادتها محدودة بالمقارنة مع تاثيراتها السلبية التي تجعل من المقيمين اتكاليين، وتؤدي الى خلل في الاسعار، ومن الأفضل عدم ادخالها ضمن الدورة الاقتصادية أو الدورة المصرفية.

      في خلاصة قولنا، مما تقدم، أن عدم مطابقة التعليم للاقتصاد يؤدي الى البطالة، التي تقود الى الهجرة، التي تتخطى سلبياتها على ايجابياتها في موضوع « العائد المالي»، الذي هو غير « العائد التنموي»، فالأول يقتصر على ادخال العملة الصعبة لتقوية الاقتصاد دون استثماره في الانتاج. أما «العائد التنموي» للهجرة فهو يتضمن أبعادا اجتماعية وسياسية هي ربما أهم من النواحي الاقتصادية البحتة. وقد تعرضت بعض مظاهر إنفاق «العائد المالي الاغترابي» غير التنموي والموجه الى النقد لانعكاساته السلبية، في معظم الاحيان، على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمقيمين، خصوصا الفقراء منهم. وفي هذا الإطار يعلق د. علي فاعور، في كتابه «الهجرة للبحث عن وطن»، ص184، على ما يسميه «التفاخر والمباهاة في قصور المهاجرين»، وإنفاق الأموال العائدة في شراء السلع الاستهلاكية وأمور ترفيهية أخرى في وسط أرياف لا زالت تواجه أزمات اجتماعية اقتصادية خانقة تدفع بالمزيد من الشباب للهجرة، دون الاستفادة من مبادرات أبنائها العائدين للحد من هذا الاستنزاف الشديد للقوى البشرية، وذلك في غياب التوجه الكلي الكافي من قبل الدولة، للقيام بمشاريع انمائية مجدية.

 وقد لاحظ د. منير خوري في بحثه «الآثار الاجتماعية والثقافية للهجرة الاقليمية» أن من تداعيات هدر «العائد المالي» الإغترابي تواصل الاستهلاك المفرط لدى بعض المهاجرين العائدين، الذين لا يستغلون ثرواتهم في الاستثمار المجدي، بل يوجهون هذه القدرة الشرائية الضخمة في بعض جوانبها الى ما اسماه «الاستهلاك التفاخري الصارخ»، في مقابل انخفاض مستوى المعيشة والتضخم المالي لدى افراد الطبقة الوسطى.. ونقول بكل الم ان هذه الطبقة قد سحقت وانحدرت نحو حافة الفقر، أو دونه.

 يعني هذا الاختيار بين العائدين المالي والتنموي؛ أن تقويم إثر الهجرة للعمل يتطلب تحديد ما اذا كان لها أثر على تنمية القوى البشرية، وبناء القدرة الذاتية في الثقانة (التقنية) والانتاج، وتطوير تنظيم اجتماعي يقوم على المشاركة، ودعم الوحدة، والاستقلال، والتكامل الاقتصادي مع المحيط الطبيعي، والدخول في التكتلات الاقتصادية الكبرى، التي تؤمن للبنان دوره الريادي، ومساهمته في البناء الحضاري الذي لا يكون في استمرار حياتنا كمناطق استيراد واستهلاك ونفوذ أجنبي ودفع لقدراتنا الحيوية. علينا اخراج لبنان من حلقة الموت المغلقة التي تضغط على عنق الاقتصاد وتهدد بخنق البلاد واستعباد العباد. ان الاستهلاك يعني الهلاك والمجتمع المعرفي المنتج القوي هو وحده الجدير بالحياة، فالمجتمع معرفة والمعرفة قوة.

      الانسان ـ الفرد، ثم الانسان ـ المجتمع هو مقياس كل شيء وهو غايته. وهنا في موضوعنا الانسان هو مقياس الانماء والتخلف. وإذا كان العقل الانساني عبر العصور الفلسفية والدينية قد سطع على انه القيمة الوجودية والمثالية الأولى، فقد لاح بعد ذلك، الدماغ الانساني على انه القيمة الانمائية المتقدمة. من هنا كان السباق، في العصر المعرفي، بين الدول على احتكار الأدمغة واستثمارها في مشاريع انماء مجتمعاتها وتطويرها، ودخل هذا السباق على امتلاك الأدمغة في نظام عولمي ظالم لا يقيم وزنا للانماء المتوازن داخل المجتمع اولا وبين المجتمعات ثانيا، فأدى ذلك الى تطور مذهل في البلدان الصناعية المستوردة للأدمغة، والى تخلف مخيف في المجتمعات المصدرة لأدمغتها، وهكذا شكلت هجرة الأدمغة عائقا رئيسيا في عملية الانماء الاجتماعي والاقتصادي، خصوصا في بلدان العالم العربي، والذي يشكل لبنان أبرز أركانه.

      ومن جهة اخرى إذا استمرت عملية الدول الصناعية المتطورة في اغراء كفاءاتنا ونهبها، انطلاقا من مقولة مصالحها الاستعمارية: تسخير العلم والتكنولوجيا لأغراض التنمية فعلى دولة العناية المعنية أساسا بشؤون المجتمع وأمنه القومي ومصيره أن تتدخل وتطالب بوضع تشريع دولي يقضي بفرض رسوم على الدول المستفيدة من هذه الكفاءات، لإنفاق هذا المردود المالي على مشاريع الاستثمار والتنمية والانماء في بلاد منشأ الكفاءات للتعويض عن خسارتها لها.

ان استمرار الغرب في مصادرة ثروتنا الوطنية الشابة المنتجة والمبدعة في إطار خطة ممنهجة مدروسة لافقارنا من هذه الطاقات، ونشاطه بجدية، في المقابل، على توريد الاجانب لنا لنهب ثروتنا المادية والتحكم بنا، هذا الواقع يضع الانظمة العربية المغتربة عن مصالحها الاستراتيجية الكبرى أمام علامات استفهام وتعجب كبيرة؟ كما يضع النخبة في الدول العربية أمام واجباتها التاريخية في اصلاح هذا الواقع الانهزامي المتردي وتثويره وتطويره وتغيير معالمه الأساس والانمائية، نحو عالم عربي جديد تبنيه عقول ابنائه المبدعة وسواعده المقاومة بمحبة واخلاص، وبعيدا عن أية نظرة شوفينية، ونحن الامة التي شهدت الاديان تهبط اليها من السماء على الارض، كما شهدت الحضارات تنطلق من ارضها نحو العالم، ونحن الامة المعلمة والهادية للبشرية التي تؤمن بحوار الحضارات وتفاعل الثقافات ، نقول: ان استيراد «الحداثة» و«التقانة» على اساس التبعية الثقافية، وبغياب الثقافة القومية الذاتية، والاستقلال الروحي ـ النفسي، افسح المجال، امام معظم الانظمة العربية على تفضيل الكفاءات الاجنبية على مثيلاتها الوطنية، واستخدامها في المشاريع الإعمارية والانمائية، مع ما ترتب على ذلك من تداعيات على الصعيدين المادي والمعنوي للطاقات الوطنية الكفؤة.

يتبع: هل لبنان قادر على استيعاب كفاءاته ؟