“المؤتمر الدائم للفدرالية” وفرص نجاح اعتماد النظام الفدرالي

الاصلاح السياسي

العقد الجديد “من نظام الطائف إلى النظام الفدرالي”، هو عنوان المؤتمر الذي دعا إليه رئيس المؤتمر الدائم للفدرالية الدكتور ألفرد الرياشي الذي عقد في مركز لقاء منطقة الربوة – المتن بحضور وزير الداخلية الأسبق زياد بارود، وممثلين عن قوى سياسية وأحزاب وفعاليات دينية وحقوقية وإعلامية واقتصادية واجتماعية وثقافية؛ والذي أُعلن فيه عن إطلاق وثيقة سياسية تلتها على الحاضرين المنسقة العامة للمؤتمر المهندسة رشا عيتاني، وقد حملت الكثير من العناوين الرئيسية التي تؤكد على أهمية التعدّديّة الطوائفيّة للمجتمع اللبناني، والتركيز على السبل الآيلة إلى صونها من خلال طرح الصيغة الفدراليّة لنظام الحكم، وربطها بموضوع الحياد اللبناني، ما يتيح بناء الدولة الإتحادية الحيادية-السيادية، القادرة على تحصين الوطن بوجه النزاعات.

لقد كانت التعددية المجتمعية الحاضر الأكبر، وقد عكستها مداخلات بعض المشاركين في المؤتمر الذي نظم إدارة جلساته الدكتور كميل شمعون، حيث ركزت على أهمية اقتراح السبل المناسبة للوصول الى تبني النظام الفدرالي وتطبيقه في لبنان، والتشديد على فكرة المواطنة اللبنانية التي تتحلق حول عناوين وطنية، كالسيادة والحرية والاستقلال، ومنطق الدولة فوق الدويلات الطائفية المقنعة التي عاش لبنان في كنفها منذ الإعلان عن دولة لبنان الكبير في العام 1920.

ولكن هل تمثل عودة الحديث عن أنّ “الفدرالية هي الحل” لمشاكل لبنان، الذي لم يخرج يوماً من أزماته المتلاحقة منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، قاسماً مشتركاً بين اللبنانيين؟ وهل الفدرالية في بلد مثل لبنان هي حل واقعي؟ وهل تعكس الفدرالية مزاج غالبية المجتمع اللبناني بعد أن توسع الحديث في العديد من الشرائح عن الخلافات الجوهرية التي تقسم اللبنانيين عامودياً، وتجعل من الحياة الوطنية مسألة شديدة التقلّب، خصوصاً أن النظام الطائفي اللبناني يحول دون نشوء مواطنية لبنانية من خارج القيود الطائفية، وبالتالي فإن الانقسام السياسي يتجلّى أيضاً من خلال الانقسام الطائفي وحتى المناطقي؟

إنّ السجال الداخلي الحاصل اليوم على الساحة اللبنانية، والذي يعكس بدوره الانقسام التاريخي حول طرح موضوع الفدرالية، لا يمكن أن يحجب مشهد تعاظم الحيّز التنظيمي، ومدى التمدد الشعبي في صفوف المؤتمر الدائم للفدرالية الذي يضم في تركيبته التنظيمية مجموعة من الأعضاء “الفدراليين” من مختلف الطوائف والمذاهب والمناطق اللبنانية، وهو مؤشر واضح يعكس جديّة فكرة الفدرالية التي تراود نخباً لبنانية، فضلاً عن أنها في مكان ما تحاكي الوعي الشعبي اللبناني، وبدأت تُطْرَحُ أكثر فأكثر باعتبارها مادة في النقاش الوطني.

غير أن الفدرالية، وحسب من يعارضونها بداعي أنها غير واقعية، لن تؤدي إلا إلى نشوء دويلات متحاربة ومتقاتلة، مهيّأة جداً للوقوع تحت تأثير النفوذ الخارجي، سيحيلُها خطوط تماس لتصفية الحسابات بين دول الإقليم الكبرى. أكثر من ذلك، يرى المعارضون أن الخريطة الديموغرافية في لبنان لا تزال تشمل مناطق اختلاط طائفي ومذهبي، بما يعقّد خيار الفدرالية، ويؤجّج نزاعات بين شرائح متجاورة جغرافياً. كلّ ذلك في ظل غياب دولة مركزية، يفترض نظرياً أن تكون قوية لكي توازن بين الحكم المحلي والسلطة الفدرالية التي يجب أن تحتكر السياسة الخارجية والدفاع؛ وهذان ملّفان شائكان، فيما تمتلك كل الطوائف اللبنانية سياسات خارجية خاصة بها، فضلاً عن سلاح خاص بها، وبعضها يمتلك سلاحاً لا تمتلكه دول كبيرة في المنطقة. ويرى المعارضون أيضا أن الفدرالية غير واقعية في لبنان، على اعتبار أن الذهاب إلى اللامركزية الموسّعة ضمن الدولة المركزية أفضل، وقد نص عليها “اتفاق الطائف” لعام 1989، بوصفه حلاً وسطاً بين الدعوات إلى التقسيم وطغيان الدولة المركزية.

بالمقابل يشدد “الفيدراليون” على أن الفدرالية في لبنان تؤمن التنمية الاقتصادية المحلية، وتوسع من دائرة التمثيل المحلي، ولا تعرض البلاد لاهتزازات التقسيم، وهو ما يمكن أن يتم على صفيح ساخن من الصراعات التي لا تنتهي. كما أنّ ما يجري عموماً من ممارسات سياسية داخل السلطة يجسّد الواقع الفدرالي الذي تتحاشى الطبقة السياسية الحاكمة الاعتراف به، من خلال سريان التوافق الطائفي وحده على القرارات الوطنية، علاوة على الاجتماعات والمؤتمرات والمصالحات والحوارات التي تقرّر بالإنابة عن المؤسسات الدستورية في كلّ القرارات المصيرية والعادية، تحت ذريعة منطق العيش المشترك والاعتبارات الميثاقية والتوافقية، ناهيك عن تقسيم البلد إلى كانتونات، بالتفاهم بين المرجعيات السياسية والدينية، وتشكيل صناديق ومجالس وهيئات لكل منطقة على حدة، بهدف تطبيق آلية «التحاصُص» لكل مقدرات ومكتسبات الدولة لصالح المرجعيات الطائفية.

انطلاقاً من هذا الواقع المأزوم، كان لا بد من دراسة القيود التي تعترض تطبيق الفدرالية في لبنان، من خلال القيدين الآتيين: الدستوري والواقعي.

ــ القيد الأول: القيد الدستوري

ثمة قيود دستورية تحول دون تطبيق الفدرالية في لبنان، تتمثّل في الفقرة «ط» من مقدمة الدستور التي تنص على: «أرض لبنان، أرض واحدة لكلّ اللبنانيين، فلكلّ لبناني الحق في الإقامة على أيّ جزء منها والتمتّع به في ظل سيادة القانون، فلا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان، ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين«.

كما أن المادة الأولى من الدستور تؤكّد أن لبنان وحدة لا تتجزأ وسيادة تامة، ما يمنع بشكل أو بآخر التداول في أي طرح يتنافى مع الوحدوية التي يحلو للبعض أن يعتبرها خطراً داهماً أمام تطلّعات التقسيم! لا سيما أن الدستور اللبناني في العديد من مواده يرسم مستقبل لبنان السياسي، بعيداً عن أيّ قيد جغرافي أو طائفي أو اجتماعي، ويحدّد السقف العام لممارسة تطلّعات الطائفية في المؤسسات الدستورية، حيث أنّنا بالعودة إلى نص المادة 22 من الدستور نستنتج أن المشترع أراد إعلاء الاعتبار الوطني من خلال نظام المجلسين الذي يتمثل في انتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، وحصر الطائفية في مجلس الشيوخ، بهدف طمأنة الطوائف، ومراعاة هواجسها ومخاوفها. وما يعزّز هذا المنحى من التحليل هو نصّ المادة 95 من الدستور الذي يدعو إلى العمل على إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية، وتشكيل الهيئة الوطنية للغرض نفسه، بهدف تطوير النظام السياسي بموجب آليات تكرّس بشكل أو بآخر مقتضيات الدولة المدنية القائمة أصلاً على الهوية الوطنية الجامعة، على خلاف طرح «الفدرالية» الذي يتناقض كلياً مع اتفاق الطائف، ويضرب الدستور في عرض الحائط، ما لم يجرِ العمل على تعديلات دستورية تمسّ النظام السياسي برمته.

القيد الثاني: القيد الواقعي:

وهو القيد الذي نتج عن التلاصق الجغرافي، والاختلاط السكاني من طوائف مختلفة في المنطقة الواحدة، واعتبارات المصاهرة وسواها؛ ما يعيق، والحال هذه، إمكانية الطرح المذكور. إذ ليس بمقدور كلّ طائفة في لبنان أن تشكّل وحدة بشرية مستقلّة تماماً عن الأخرى، بسبب الانتشار السكّاني المتمايز، ما لم يقرّر أبناء طائفة معيّنة النزوح إلى مناطق انتشارها. وهذا برأينا مشروع مكلف للبنان إن لم نقل صعباً، في ظلّ التناقضات التي أفرزتها الطائفية المقيتة على الواقع السياسي والثقافي اللبناني.

ولكن يبدو أن كرة ثلج الدعوة إلى لبنان فدرالي قد كبرت، نظراً لاستحالة إيجاد قواسم مشتركة بين مشروعَي “حزب الله” والدولة، حسب رأي دعاة الفدرالية؛ فالمطالبة بسحب سلاح حزب الله مؤداه اشتعال حرب أهلية لا يريدها أحد، ما يحيي فكرة أن يقرر كل مكون لبناني أسلوب الحكم والعيش الذي يريده.

في الختام؛ هناك حقيقة لا يمكن لأحد الهروب منها أو التلطي خلفها؛ وهي أن لبنان الراهن ليس بلداً موحداً نفسياً وروحياً، وليست وحدته الوطنية في حال حسنة، البلد الذي دُمّر اقتصاده وتعطلت مؤسساته وهُجّر أبناؤه وما زال يرفض بعض أبنائه النظام الفدرالي أو إنشاء مجلس للشيوخ أو حتى مجرد الحديث عن ضرورة معالجة بعض الثغرات التي تعتري دستور البلاد؛ يعاني من ظاهرة خطيرة تهدد الكيان وهي  فدرالية الزعماء الطائفيين؛ لذلك لن يكون للبلد مستقبل لا فدرالي ولا غير فدرالي في ظل هذا النظام الطائفي المدمّر.

د. هشام الأعور