أكثر من أربعين يومًا ومعلمو المدارس والمعاهد الرسمية في حالة إضراب، المؤسسات التربوية الرسمية مقفلة، والتلامذة في منازلهم دون أي تحصيل علمي للسنة الثانية تواليًا، ففي العام الدراسي السابق اعتكف الأساتذة لحوالي ٥٠ يومًا، أي نصف العام الدراسي تقريبًا بعد اتباع نظام التعليم لأربعة أيام في الأسبوع، هذا دون أن ننسى التعليم عبر الانترنت قبلها بعام.
في المدارس الخاصة الوضع مختلف، فالعام الدراسي يسير بسلاسة نسبيًا من بدايته، باستثناء الإضراب في اليوم الأول من شباط والذي دعت له نقابة المعلمين في المدارس الخاصة وعارضه اتحاد المدارس الخاصة والتزم به عدد من أساتذة المدارس، في حين تجاهله البعض إمّا تحت ضغط إداري وإمّا لأنّ إدارة مدارسهم حسّنت من رواتبهم وشروط عملهم.
استمرار التعليم في المدارس الخاصة ليس بالضرورة دليل على أنّ جميع أساتذة هذه المدارس ينالون رواتب جيدة، ولكنّ الفوارق بين مدرسة وأخرى هي ما يجعل من “توحيد الصوت” أمر شبه مستحيل.
اتخذت أغلب المدارس الخاصة هذا العام قرارًا بمنح أساتذتها مبلغ مالي بالدولار، إضافة إلى مبلغ بالليرة اللبنانية، المبلغ بالعملة الصعبة يختلف نظام احتسابه من مدرسة إلى أخرى، فمنها ما احتسب نسبة مئوية بسيطة من الراتب بقدر ١٠ أو ١٥ أو ٢٠ بالمئة منه بالدولار وهو مبلغ قد يصل إلى حوالي ٢٠٠ دولار، إضافة إلى حوالي مليوني ليرة لبنانية، ومنها ما أضاف مبلغ بالدولار ثابت لجميع أساتذته يضاف إلى قيمة الراتب بالليرة اللبنانية، هذا المبلغ بالدولار يختلف بشكل كبير بين مدرسة وأخرى، ويكون مجرد ١٠٠ دولار شهريًا في المدارس “الصغيرة” وقد يلامس ال ٨٠٠ دولار أو أكثر في المدارس الضخمة وتلك التي تمتلك فروعًا خارج لبنان، وهذا المبلغ يعتبر “مساعدة” ما من مستند رسمي يلزم الإدارة به، وهي تستطيع التوقف عن تسديده ساعة تشاء.
في تلك المؤسسات التربوية التي تمنح أساتذتها مبالغ متواضعة، فإنّ الأستاذ يعاني بشكل كبير، ويكاد راتبه لا يكفيه فاتورة اشتراك المولدات شهريًا. إلّا أنّ مأساة الأساتذة لا تقف عند هذا الحد، فمع تدهور أوضاعهم وتواضع رواتبهم، ترك العديد منهم وظائفهم، ومن جهة أخرى لجأت بعض المدارس لتخفيض عدد المعلمين لتوفير الرواتب، الأمر الذي وضع الأساتذة الباقين تحت ضغط مضاعف لتعويض غياب زملائهم.
مقابل كل هذا يجد الأستاذ نفسه الحلقة الأضعف في هذا الصراع، فلو حاول رفع الصوت، ستجد إدارات المدراس ألف تبرير لعدم إيفائه حقه، وأوّلها عدم رغبتها بفرض تكاليف إضافية على الأهالي، إضافة إلى التذرع بحجة عدم تسديد الأهالي المبالغ المتوجبة عليهم، أمّا الأهل فسيتّهمون الأستاذ بالجشع، ويتساءلون عن سبب اعتراضه وهم الذين فُرضت عليهم مبالغ خيالية هذا العام، غير مدركين أنّ الأستاذ لم يرَ “من الجمل سوى دينته” وأنّ مشكلتهم الحقيقية هي مع الإدارة.
ومؤخرًا انتشرت بشكل كبير أقاويل كثيرة عن “طمع” الأساتذة في المدارس الخاصة وهم الذين “يعلّمون” أولادهم مجانًا. نعم الأستاذ لا يدفع قسط تعليم أولاده في المدرسة التي يدرّس فيها، ولكن الأمر ليس بمعمّم على جميع المدارس وبعضها أصبح يطالب معلميه بمبلغ مقابل تعليم أولادهم، ثمّ أنّ الأستاذ لا يدفع القسط لكنه ملزم بدفع رسوم التسجيل والقرطاسية وثمن الكتب وغيرها…
ويتساءل كثيرون لمَ يعترض الأستاذ على وضعه وهو الذي ينتهي دوام عمله عند الثالثة بعد الظهر كأقصى حد، ولكن هل يظن هؤلاء أنّ الدروس تحضّر نفسها بنفسها، وأنّ الامتحانات تأتيهم حاضرة، أو هل سألوا أنفسهم من يصحّح أوراق الامتحانات، ويجتمع معهم دوريًا لمناقشة مستوى ووضع أولادهم؟ دون أن نننسى الدورات التي تلزم بعض المدارس أساتذتها بمتابعتها.
هذا عن وضع الأستاذ داخل مدرسته، دون أن ندخل في تقييم الحال الذي وصلت إليه مؤسسة الضمان الصحي، وهي الجهة التي كان يلجأ الأساتذة إليها في حال المرض والاستشفاء.
بعد كل هذا يجد الأستاذ نفسه وسط دوامة تكاد تقضي عليه، وهو الذي يصارع وحيدًا، فبعض زملائه لن يشاركوه اعتراضه وهم قد حصلوا على حقوقهم، وبعضهم الآخر يفضّل الصمت خوفًا من إغضاب الإدارة، والإدارات تدّعي المعاناة، والأهل يرونه الجشع، وهو يصارع بين حرصه على مصلحة تلامذته وخوفه من أن يغدو تأمين لقمة عيش أبنائه بكرامة حلمًا صعب المنال، وهو مطالب بالمحافظة على مصلحة “الأولاد” ولم يسأله أحد يومًا عن حال “أولاده”.
ولكن بعد كل هذا، تبقى حقيقة واحدة ثابتة وساطعة كسطوع الشمس وهي أنّ أساتذة التعليم الخاص يستمرون بواجباتهم لا من باب الرضا بل من باب الخوف واليأس وفقدان الأمل، وينتظرون مجدّدًا أساتذة التعليم الرسمي لإنقاذهم، في كنف دولة أقصى ما حققته لأساتذتها هو تغيير صورة صفحة الفايسبوك الخاصة بوزارة التربية لتذكيرنا أنّ لا مستقبل دون علم وكأنّها تلوم الأستاذ بطريقة غير مباشرة ومؤسسات خاصة تبحث عن الربح المادي قبل أي اعتبار آخر.