مع دعوة رئيس مجلس النواب اللبناني إلى عقد جلسة عامة خلال الأسبوع المنصرم لدراسة مشروع قانون موازنة العام 2022 وإقرارها، لا بدّ من الإشارة إلى أن إعداد مشروع موازنة يشكّل في حدّ ذاته تطوراً جيداً، ومطلباً اقتصادياً، وإلا فسنعود إلى الإنفاق على قاعدة الاثني عشرية التي أوجدت فوضى مالية ملحوظة منذ العام 2006، حين كان يُدار البلد بدون موازنة عامة. في قراءة أولية لمشروع الموازنة العامة التي أقرتها الحكومة ورفعتها إلى مجلس النواب يتبيّن لنا أنها موازنة بعيدة كل البعد، من حيث الشكل والمضمون، عن موازنة بلد على شفير الإفلاس، وكأن من صاغ المشروع تناسى تماماً حدّة الأزمة الاقتصادية وتداعياتها على الواقع المعيشي المؤلم، لا بل تتضمّن هذه الموازنة عدد كبير من البنود الضريبية التي من شأنها أن ترفع أسعار السلع والخدمات الأساسية وبالتالي المزيد من إفقار الناس في ظلّ حرمانهم من أي شبكة أمان اجتماعي ومن دون الاهتمام بتأمين الاحتياجات الرئيسية اللازمة لأبسط مقومات المعيشة.
في التفاصيل:
- أولاً، إن موازنة 2022 هي موازنة الضرائب والرسوم بامتياز، قد لا تتضمّن هذه الموازنة الكثير من الضرائب الجديدة ولكن تعديلها عبر رفع سعر الدولار الضريبي إلى ما بين 15 و20 يشكل بحدّ ذاته جريمة اقتصادية في وقت يعاني الاقتصاد من انكماش حادّ، ما يعني المزيد من التضخم المفرط في أسعار السلع والخدمات والمزيد من التآكل في القدرة الشرائية، وكأن المواطنين لا يكفيهم نسب تضخم تجاوزت الـ1000% في مقارنة بسيطة لمؤشر أسعار المستهلكين بين شهر كانون الثاني 2019 وشهر حزيران 2022، وفق أرقام الإحصاء المركزي، ما جعل لبنان يحتل المرتبة الأولى عالمياً وفق نسب تضخم الأسعار، ناهيك عن أن رفع الضرائب في خضمّ ركود اقتصادي حادّ وقبل تفعيل العجلة الإنتاجية، يعتبر غير مجدي على صعيد عملية التحصيل، فكثرة الضرائب تقتل الضرائب.
- ثانياً، تفتقر هذه الموازنة بشكل تامّ إلى الإصلاحات الهيكلية التي تهدف إلى ترسيخ مناعة الاقتصاد الوطني وقطاعاته المالية على المدى المتوسط والطويل، والتي لا طالما طولبت الحكومات المتعاقبة بضرورة القيام بالإصلاحات البنيوية المرجوة من أجل خفض نسب العجز والمديونية العامة إلى مستويات قابلة للاستمرار خصوصاً في ظل بروز مسائل إختلالات المالية العامة على رأس قائمة أولويات مجتمع الأعمال والاستثمار في مختلف أنحاء العالم.
- ثالثاً، لا تلحظ الموازنة العامة نفقات استثمارية وهي اكتفت فقط بتحديد نفقات متدنيّة في قطاعي الزراعة والصناعة بقيمة 2,200 مليار ليرة من أصل 49,416 كنفقات اجمالية (وفق المسودّة الأولية) ما يتعارض مع إمكانية وضع خطة تعافٍ اقتصادي مبنية على تعزيز الاستثمار في المجال الانتاجي، لاسيما وأن التحدي المحوري في سبيل تحفيز النمو الخاص يكمن في تحفيز الاستثمارات الخاصة المرتبط بتحسن بيئة الأعمال من خلال تخفيض التكاليف التشغيلية وتحسين سهولة مزاولة الأعمال، والانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج.
- رابعاً، تشكّل هذه الموزانة صفعة لأجراء القطاع العام في محاولة واضحة لإقفارهم، فاتحة المجال أمام الاستقالات من القطاع العام، وهو ما تجلّى من خلال منع العسكريين من الجمع بين رواتبهم التقاعدية ومخصصات أخرى، وتعديل ملاك السلك العسكري وتعديل شروط الترقية، وتقليص اعتمادات الجامعة اللبنانية. أضف إلى ذلك، عدم منح موظفي القطاع العام تصحيحاً للأجور بل الاكتفاء بمنحهم مساعدات اجتماعية هزيلة ناهيك عن خفض التقديمات التقاعدية لورثة المتقاعد وتصعيب شروط الاستفادة.
- خامساً، تفتقر هذه الموازنة إلى الإنقاق الاجتماعي أو الصحي مع تقليص اعتمادات وزارة الصحة. ويأتي ذلك في وقت يتداعى فيه نظام الرعاية الصحية اللبناني وسط أزمة اقتصادية طاحنة أدت لنزوح جماعي لآلاف الأطباء والممرضين وإجبار مستشفيات خاصة على إغلاق بعض أقسامها بما شكل مزيداً من الضغوط على القطاع الصحي الحكومي الذي يتعرّض بالفعل لما يفوق طاقته.
- سادساً، من الواضح بأن هذه الموازنة تحاول تحييد القطاع المصرفي عن تحمّل أي تبعات للخسائر الناتجة عن الأزمة، وتسمح بالاقتطاع المقنّع على الودائع مما سيضيّع حقوق المودعين بشكل تام. على سبيل المثال، تنصّ المادة 132 على إلزام المصارف في تسديد الودائع الجديدة فقط بالعملة المودعة فيها دون ذكر الودائع القديمة مما يشرّع للمصارف ومصرف لبنان الاستمرار بعملية الاقتطاع على الودائع الدولارية ما قبل 17 تشرين، وبالتالي يمهّد الطريق أمام تحويل نسبة منها من دولار إلى ليرة لبنانية. كما تفرض الموازنة على موظفي القطاع العام والمؤسسات العامة والإدارات إلزامهم بتوطين الرواتب لدى مصرف، أي لا خيار أمامهم سوى القيود وسقوف السحب التي تحدّدها لهم المصارف.
- سابعاً، إن موازنة 2022 تحمي رؤوس الأموال على حساب المواطن، إذ استثنت عملياً أي زيادات ضريبية استهدافية كالتي طرحها الوزير السابق غازي وزني، أي ضريبة التضامن الوطني التي فرضت ضريبة على الثروة ضمن شطور محدّدة ولمرّة واحدة فقط. كما كان لافتاً أن تكون الزيادات الضريبية محصورة بالضرائب غير المباشرة واستثناء الضرائب على الأرباح ورؤوس الأموال من زيادات كبيرة كالتي لحقت بفئات الشعب كافةً، مع الانخراط بقوّة في منح الإعفاءات لرجال الأعمال وكبريات الشركات والمستثمرين، أي كل كبار المكلفين بالضريبة، وإعفاءات من نوع التسويات الضريبية، وإعفاءات من ضرائب الدخل لبعض الفئات مثل الشركات الناشئة، وإعفاءات على الودائع الجديدة بالعملات الأجنبية لمدة خمس سنوات، كذلك أعفيت الشركات الدامجة من ضريبة الدخل لعدد من السنوات. وبدلاً من أن تدفع الشركات ضريبة أرباح بمعدل 17% على فروقات إعادة تقييم أصولها التي تحتسبها ضمن أرباحها، أتيح لها في مشروع موازنة 2022 تسديد ضريبة 5% فقط.
في الواقع، وكما أشرنا فإن إقرار الموازنة العامة حاجة ملّحة لانتظام المالية العامة في لبنان، ويحمل في طيّاته بلا أدنى شك إشارات مؤاتية للأسواق والمستثمرين ويساهم في تعزيز عامل ثقة العالم الخارجي بالاقتصاد الوطني. إلا أنه يجدر الذكر أن الموازنة العامة في المطلق ليست فقط وسيلة لحصر احتياجات الحكومة وإيراداتها، بل لها وظائف جوهرية أخرى وبالأخص استخدامها كوسيلة لضبط السياسة المالية للبلاد ولتحقيق أهداف الدولة وتنفيذ سياستها الاقتصادية. وتكمن أهمية الموازنة العامة في دورها كأداة رئيسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويشكل إعدادها رافداً أساسياً في الجهد التنموي وفي تلمّس احتياجات الدولة ومواطنيها. في هذا السياق، نرى أن إقرار الموازنة العامة بحدّ ذاته ليس كافٍ إذ يجب أن يترافق مع تقدّم مرجو على مسار الاصلاحات الهيكلية التي طال انتظارها من الاصلاحات الاقتصادية إلى المالية والإدارية منها، والتي من شأنها أن تعزّز النمو الاقتصادي وتحفّز كل من الإنتاجية والعجلة الاقتصادية وتحدّ بالتالي من الاختلالات القائمة على صعيد القطاع الخارجي والمالية العامة.
في موازاة ذلك، ومع دخولنا شهر أيلول وانقضاء الموسم السياحي في البلاد، شكّل قدوم أكثر من مليون وافد جرعة أوكسيجين على صعيد العجلة الاقتصادية بشكل عام والقطاع النقدي بشكل خاص، مما ساهم في ترسيخ استقرار خجول نسبياً على صعيد سعر الصرف حتى منتصف شهر آب تقريباً، وهو ما عوّل عليه مصرف لبنان لتمويل التعميم 161 ودعم سعر الصرف في تلك المرحلة، إلا أن ما يُحكى عن استقطاب حوالي 4 مليار دولار من الإيرادات السياحية خلال موسم الصيف (أي أكثر مما يطمح إليه لبنان من صندوق النقد الدولي) يبدو بلا شك مبالغاً به، إذ أن مسار سعر الصرف الذي بالكاد حافظ على استقراره مع تردّي معظم المؤشرات الاقتصادية والمالية الأخرى، لا يوحي بأن الاقتصاد الوطني قد نجح في امتصاص هذا الحجم المبالغ به من الإيرادات السياحية. وهو ما كان متوقعاً فعلياً مع بداية موسم الصيف لاسيما وأن الشريحة الكبرى من الوافدين هم من اللبنانيين المغتربين (بحدود 80%)، يليهم العراقيين وجنسيات عربية أخرى، وكما هو معلوم فإن ما ينفقه المغترب اللبناني أقل نسبياً من ما ينفقه السائح العربي وتحديداً الخليجي الذي غاب أيضاً هذا العام عن لبنان بعدما لجأ إلى مقاصد سياحية في بلدان أخرى، ناهيك عن أن الإيرادات السياحية التي حٌصلت في موسم الصيف بالكاد غطّت الخسائر التي تكبّدها أصحاب المؤسسات السياحية في موسم الشتاء وفي مواسم الصيف خلال السنوات الفائتة. وبالتالي، فإن التعويل على الموسم السياحي لتحقيق خرق جدّي مستدام على صعيد سعر الصرف لم يكن متحققاً.
من هنا، لا شكّ في أن لبنان يتجّه في المدى المنظور نحو مسار شائك نسبياً في ظلّ لهيب الاستحقاقات الاقتصادية الماثلة أمامنا فور عودة المغتربين اللبنانيين إلى بلادهم، ما من شأنه أن يرفع من حرارة فصل الخريف بعد منتصف شهر أيلول. فالسيناريو الماثل أمامنا ينطوي على فراغ حكومي محتمل حتى الساعة أو تعويم لحكومة دون فعالية، يليه فراغ رئاسي في مرحلة لاحقة خاصة في ظل الانقسام العامودي الحادّ المتجلّي في مجلس النواب وتشنّج المناخ الجيوسياسي في المنطقة الذي قد يرخي بثقله على عملية ترسيم الحدود، وهو ما سيكون بمثابة انتحار جماعي يحمل في طيّاته آفاق سوداوية في ما يخصّ سعر صرف الدولار، لاسيّما في ظلّ رفع دعم بات شبه كامل عن السلع الأساسية وتوجّه معظم تجّار السلع نحو السوق السوداء وآخرهم تجار المحروقات مع الاتجاه إلى دولرة البنزين في وقت قريب، أضف إلى ذلك انعكاسات إقرار الدولار الجمركي المرتقب وغيره من الإجراءات الأخرى على نسب تضخم الأسعار وعلى تآكل القدرة الشرائية للمواطنين، دون أن ننسى تضاؤل فعالية منصة صيرفة وفق التعميم 161 نظراً إلى الشحّ الحادّ في احتياطيات مصرف لبنان الأجنبية، حتى وإن تمّ التمديد للتعميم المذكور على الورق والقلم. عليه، فإن الخرق الأساسي والأوحد يبقى رهن تشكيل حكومة تكون قادرة على تفعيل عملها بشكل منتج لمواكبة عملية إطلاق برنامج إنقاذ شامل من أجل إعطاء صدقية للمساعي الإصلاحية المطروحة، ولاستعادة الثقة بالوضع الاقتصادي والسياسي والحكومي والتأسيس لمرحلة جديدة ونهج جديد ورؤية اقتصادية جديدة.
عميد الاقتصاد الرفيق فادي قانصو