هذا المقال عثر عليه الباحث جان داية:
لم يؤثر بي شيء منذ عودتي من غياب طويل في الأميركتين، التأثير الذي أثرته الجرائم المتعددة وحوادث الانتحار التي تنشر الجرائد أخبارها بين الفينة والفينة. لم يكن التأثير المذكور ناتجاً عن عدد الجرائم ووفرتها. فالجرائم من الأشياء العادية في جميع الشعوب، بل عن نوعها الذي ينمّ عن مبلغ خطر وضعيتنا الاجتماعية الحاضرة على حياتنا وهيئتنا الاجتماعيتين، ويوّلد الاعتقاد بأن العائلة السورية (الشامية ـ اللبنانية ـ الفلسطينية) التي امتازت بفضائل يصح أن تضرب بها الأمثال، قد ابتدأت بدور الانحلال والانحطاط الذي سينتهي بها إلى أشأم الحالات الاجتماعية. كان ذلك صدمة قوية زاد في شدة وقعها أن الرأي العام يتخبّط في تعليل أسباب الخلل والتكهّن بنتائجه على أصوات المنادين (بصيانة الأخلاق والمحافظة على الفضائل) وتحذيرات الناقمين على (التمدن الغربي الفاسد) المنذرين (بشرور اعتناق المبادئ الجديدة). وكل تلك عبارات كبيرة القيمة متى كانت في محلّها، ولكن استعمالها في ما نحن بصدده على هذا الشكل المشوّش يجعلها عديمة الفائدة عديمة القيمة. لأن القول بصيانة الأخلاق مثلاً، يقتضي سابق معرفة بالأخلاق وماهيتها وأنواعها، بل يقتضي التأكّد من وجودها على الأقل. والأخلاق من المواضيع القائمة بنفسها التي لا تبلى لها جدة ولا يقوم لها عهد كالبحث في وجود خالق وخلود النفس. فليس من الحكمة أن يجعلها الكويتبون مضغة في الأفواه.
من المؤسف أن لا يكون في أدبنا (مدرسة اجتماعية) تُعنى بشؤوننا الاجتماعية والأخلاقية، وأن يذهب معظم الذين فاجأتهم أعراض أدوائنا للبحث عن أسباب الجرائم المشار إليها والمفاسد الاجتماعية الأخرى، كالاندفاع وراء الخلاعة والغواية والانغماس في حمأة اللهو المشين والقمار، في العوارض الطارئة على محيطنا من الخارج، وقلّ منهم من وجه عنايته إلى درس وضعيتنا الاجتماعية العتيقة التي تحمل في وسطها جراثيم المشارب القديمة الفاسدة.
الحقيقة أن البحث عن أسباب المعضلة الاجتماعية التي أمامنا في العوارض الطارئة علينا من الخارج، يشبه بطبيعته البحث عن النظارات وهي موضوعة على الأعين. فالاعتراف بأن أصل الداء فينا واجب للإقدام على التداوي. وليس من الحكمة في شيء أن نضع نظارات على أعيننا المغشاة ونقول “إننا لا نبصر شيئاً!”، إذ من البديهي أنه لا يجب وضع اللوم على النظارات في حين أن العلة في الأعين نفسها.
جمودنا الاجتماعي
ليس في محيطنا شيء أدعى إلى استيقاف نظر الباحث الاجتماعي من حالة الجمود الاجتماعي التي يحتفظ بها مجموعنا في هذا العصر. مع أن هنالك من الدواعي والحاجات الحيوية الجديدة ما يكفي جزء منه لتبرير ثورة اجتماعية تقضي على جميع النظم والأساليب التي لا تفيد شعباً قد دخل فعلاً ساحة تنازع البقاء، وتقيم عوضاً عنها نظماً وأساليب جديدة تمكننا من إطلاق الفكر في مجال حرية العمل وفقاً للعلم والاختبار، وقياماً بمقتضيات الحاجات المادية والروحية الجديدة.
لقد وقفنا من العادات والتقاليد عند حدّ حجّر قلوبنا وضرب نطاقاً من الشهوات الحيوانية حول نفوسنا حال بينها وبين العواطف الإنسانية النبيلة والانفعالات البشرية الراقية. فكان من وراء ذلك أن اعتورنا نقص أخلاقي كبير باعد الشقة بيننا وبين المثل الأعلى للمجاميع الإنسانية التي لها خصائص الارتقاء. تظهر أعراض هذا النقص في اقتصارنا في معرفة الأخلاق وتحديدها على المعاني الأخلاقية القديمة التي تعتمد عليها الجماعات السفلى المحدودة اختباراتها وقابليتها للتطور والارتقاء. من ذلك، إننا نسلّم مثلاً بوجوب محافظة الرجل على عرضه بالقوة – الأمر الذي ليس من مزايا حقوق الإنسان الطبيعية فحسب، بل من مزايا وحقوق الحيوان الأعجم أيضاً – غافلين عن النظر في الحالات التي تجيز استعمال هذا الحق دون أن يكون في ذلك مساس أو خرق لحرمة المبادئ الإنسانية النفسية والاجتماعية كما في حالة المدافعة عن عرض مكتسب بطريقة من طرق القوة (الزواج الذي لا تراعى فيه نفس المرأة وإرادتها). ونقول إن الاعتداء على العرض خرق لحرمة الأخلاق والاجتماع. ولا نقول إن الزواج القسري وما هو في معناه يمثل نوعاً من أنواع الاعتداء على العرض، وفيه من الخرق لحرمة الأخلاق والاجتماع ما في ذاك. وهكذا نجد أننا نتابع عملية إحياء الفضائل الظاهرة العارضة على حساب الفضائل الحقيقية الثابتة. والذي يدعو إلى أسفي وأسف كل مفكّر قومي، أننا نفعل ذلك متبجحين بالشرف الذي ندّعي أننا أخذناه عن قوم أحلّوه في أعلى مرتبة. ونحن لو تمعّنا في حقيقة هذا الشرف لوجدناه خالياً من قيمة الشرف الحقيقي، لأنه شرف ظاهري فقط تستر وراءه معائب اجتماعية وأخلاقية كثيرة كانت باعثاً على نشوء مبدأ خطر جداً بيننا هو مبدأ استجازة الأمر سراً.
نتج عن جمودنا الاجتماعي، فضلاً عمّا تقدّم، نظام اجتماعي فاسد قسَّم مجموعنا إلى أقسام وهت بينها الروابط الاجتماعية والأخلاقية مع كرور الأعوام. يتألف القسم الأول من الرجال الذين أقاموا أنفسهم حاكمين بأمرهم، وليس لهم في الغالب علاقة مع نسائهم وأولادهم إلاّ علاقة الأمر والطاعة فقط بدلاً من علاقة التفاهم والشورى. ويتألّف القسم الثاني من النساء اللواتي حُرِمْنَ الإرادة والمشيئة وواجباتهن الطاعة والإذعان فقط. ويتألف القسم الثالث من النشء الذي يبدأ حياته في وضعية اجتماعية فاسدة تنتهي به إلى ضياع وفقدان الحياة التي تؤهله لها مواهبه الطبيعية.
هذه هي الأقسام الرئيسية التي ينقسم إليها نظامنا الاجتماعي الذي نشأ في العصور الغابرة وظل معمولاً به إلى هذا العصر. وهو دليل واضح جلي على جمودنا الاجتماعي ووقوفنا عند الحد الذي كان في وسع الأقدمين الطيبي الذكر بلوغه، ولم يكن في طاقتهم تجاوزه.
التطور والتصادم
لا تعتبر أمة ما أهلاً لنزول ميدان تنازع البقاء إلّا إذا كانت لها خصائص التطور. فالأمة التي ليست لها هذه الخصائص، ويقودها سوء طالعها إلى ذلك الميدان، أمة مقضي عليها بالفشل والموت. ذلك أن الحياة نفسها سلسلة تطورات ليس لها أوّل يُعرف، ولا آخر يوصف. والتطور الاجتماعي هو أهم التطورات التي تؤثر على مجرى حياة الأمة وأجدرها بعنايتها، وهو مقياس شعورها بمزاياها وحاجاتها وأغراضها.
تجاه هذه الأولية المقرّرة، لا يسعنا إلّا أن نقف متسائلين: ألنا خصائص التطور أم لا؟ وما هو نصيبنا منه؟ أما أن لنا خصائص التطور، فأمر يشهد لنا به التاريخ، فقد كان لنا نصيب وافر منه. وأما نصيبنا منه الآن وما سيكون في المستقبل، فقضية يجب معالجتها قبل فوات الأوان. لأن التطور يذهب دائماً في جهة واحدة، فإن منه ما يكون ارتقاء، ومنه ما يكون انحطاطاً. وللمدارك العقلية شأن كبير في تقرير ذلك.
إن من الجرائم التي أشرت إليها والمفاسد الاجتماعية الأخرى ما هو نتيجة أوّل تصادم بين جمودنا وداعي التطور. ومنها ما هو بدء تطور اجتماعي فاسد ذاهب في وجهة الانحطاط. وإذا تركنا معالجة هذين الأمرين المعالجة التي يستحقانها، انتهى مجموعنا إلى فقدان الركن الوحيد الباقي له وهو استعداده الفطري الناتج عن مواهبه الطبيعية، وإفساد هذه المواهب نفسها.
قد يظن بعض الباحثين في عللنا الاجتماعية أن التصادم المشار إليه إنما هو تصادم بين الشرق وأساليبه والغرب وأساليبه. وأقلُّ ما يُقال في تعليل هذا النوع خطأ فاضح. لأن الحاجات والأغراض الإنسانية الحيوية التي تقتضي الارتقاء تسيطر على كل الغرب والشرق. والذي يلقي نظرة واحدة على تاريخ القرون الوسطى، من مائة سنة من هذا التاريخ أو أقل، يدرك الفرق الكبير بين الغرب العصري والغرب القديم. فالفرق بيننا وبين الغربيين ليس فرقاً بين وضعيتين ثابتتين بل بين شعبين مُعَدَّين لسرعة التطور نحو المثل العليا والكمال المطرد.
ليس التصادم المذكور إلّا نتيجة عدم ملاءمة وضعيتنا الاجتماعية الحاضرة لحاجاتنا النفسية وأغراضنا العقلية الآخذة في الازدياد والارتقاء مع ازدیاد معارفنا واختباراتنا وارتقاء ميولنا. وهناك حكمة قديمة تقول: “لا تضعوا خمراً جديدة في زقاق عتيقة تشقها”. وها هي الزقاق العتيقة – جدّاً – تنشق وتهرق الخمر!
لا أزال أذكر ما قرأته منذ بضعة أشهر، حين كنت لا أزال في المهجر، عن قيام الجهال ذوي المشارب القديمة في دمشق، في وجه خطوة المرأة الأولى لتثبيت حقها الطبيعي في الحرية واستعمال الإرادة، والارتقاء من حالة الانحطاط التي كانت عليها إلى مرتبة الإنسان الذي له قيمة شخصية نظير سائر البشر المرتقين، راشّين ماء الفضة على كل سيدة تحسر من وجهها لأنها تريد أن تستعيض من انقيادها الأعمى الذي يعدم مداركها وخوفها الذي يشل إرادتها وعواطفها، بجرأتها الأدبية وثقتها بنفسها، لحفظ مركزها وإعلاء شأنها ومعاونتنا في ارتقائنا بما تقدمه لنا من عواطف حقيقية تملأنا شجاعةً وإقداماً. لا أزال أذكر التأثير الذي أحدثه ذلك فيّ وما اعتقدته حينئذ وتأكدته الآن وهو: إن الأمة السورية تدخل الآن في طور الصراع بين عصرين، الواحد منهما قد بلغ من الكبر عتيّاً وهو ذاهب في طريقه إلى القبر، والآخر لا يزال في بدء نموه وهو يشق طريقه بقوته الجديدة إلى الحياة. ومسألة الغلبة الأخيرة التي لا يشكّ عاقل في أنها ستكون للعصر الجديد، مسألة يتوقف حلّها على قليل من الوقت. ومتى تم ذلك، وتحررت المرأة تحرراً تاماً في جملة ما يحدث في هذا العصر، ونزع ذلك القسم الكبير من النساء لثام الإبهام عن وجهه، حينئذ يقول الكثيرون في قلوبهم: “ها قد أصبحت المرأة بشراً نظيرنا!” حينئذ يكون الشعب السوري قد سجّل أهليته للبقاء.
التطور الفاسد
قلت فيما تقدّم: من الجرائم والمفاسد الاجتماعية الأخرى ما هو نتيجة بدء تطور اجتماعي فاسد ذاهب في طريق الانحطاط. هي حقيقة إذا كان لا يعترف بها الرجل العادي، فإن طالب علم الاجتماع لا يسعه إلّا أن يجهر بها، لأنها مع الأسف حقيقة راهنة.
إن التبعة في هذا التطور السافل تقع على جمودنا الاجتماعي وتشبثنا بالتقاليد القديمة التي تتضارب مع حاجاتنا الجديدة كل التضارب. فإن ذلك الجمود المصحوب بالجهل قد أبقانا بعيدين عن روح العصر غريبين عن الاختبارات النفسية.
لا نعرف شيئاً عن الفضائل الاجتماعية التي هي فضائل في ذاتها، إلا بالاصطلاح والتقليد اللذين كثيراً ما يكونان على عكس حقيقة الفضائل. لا نشعر من العواطف الإنسانية إلا بتلك التي هي شيء مشترك بيننا وبين الحيوان. حتى إذا جاء العصر الجديد متطلباً منا حرية أوسع للقيام بالمقتضيات الجديدة الضرورية للحياة، وجدنا قسماً كبيراً يندفع بعامل الشهوات (العواطف القديمة) وراء كل ما من شأنه أن يزيدها. لأن النفوس لم تتعلم في الماضي إلّا أن تكون الشهوة أكبر عامل في حياتنا الاجتماعية. وبدلاً من أن يتّخذ تطور ذلك القسم وجهة ترقّيه وترقّي المجموع وتكسبه فضائل جديدة توفّر له أكبر قسط ممكن من السعادة، نجده يتّخذ وجهة تحطّه إلى أسفل مما كان عليه.
في هذه الحقيقة يكمن خطر عظيم على كياننا الاجتماعي والقومي، ويهددنا بملاشاة جميع الآمال التي نعلقها على حياة حرة واستقلال شعبي تام ينتهيان بنا إلى تحقيق المثل الإنساني الأعلى: السعادة في ظلال القيم.
إن التطور الفاسد قد يكون من أكبر العوامل التي تؤخر تطورنا الصالح وتفسد عليه بعض وجهاته، وتؤجل بزوغ شمس العصر الجديد الذي تحل فيه الحرية محل العبودية، والثقة المتبادلة محل الشك، وأدب النفس والأخلاق محل الاصطلاح الفاسد والعقائد المتهرئة.
ولعمري لم أجد بين كل من مررت بهم في حياتي من الحمقى من هم أحمق من ذلك الفريق منا الذي يدفع نفسه بقيمه الإنسانية، ثمناً للانتقال من حالة الجمود إلى حالة الانحطاط، مُقْدِماً على اقتباس عوائد وأساليب غربية بدون أن يتدبر أمرها ويدرس إذا كانت تتفق مع مزاجه وطبيعته أَم لا، مستبدلاً تقليداً قومياً بتقليد أجنبي. والغريب في هؤلاء القوم أنهم يفعلون ذلك شامخين بأنوفهم تكبّراً على أبناء جنسهم!
التربية الاجتماعية
تجاه الحقائق الرئيسية الاسمية المتقدمة، وتجاه مئات من الحقائق الفرعية الأليمة التي نمرّ بها في حياتنا اليومية، نشعر بالحاجة الماسة إلى “التربية الاجتماعية” لإنقاذ هيئتنا الاجتماعية من الجرائم والآثام السرية والفساد الأخلاقي، ووضع طرق تطورنا نحو مثلنا الأعلى وإيجاد المناعة الاجتماعية ضد جراثيم الأمراض والأوبئة الاجتماعية التي تغزو محيطنا بين حين وآخر.
أين “مدرستنا الاجتماعية” لتقوم بعمل الإصلاح والتربية؟
إن لممّا يؤسف المفكّر القومي ويحزنه أن تكون المدرسة الاجتماعية مقتصرة على بعض النماذج [كلمة غير مفهومة] في البيت والمدرسة، وبعض المقالات المبعثرة هنا وهناك في الصحف، وبعض الكتب الأدبية ممّا لا يقنع غلة حاد ولا يغني من جوع.
إن على الأدباء – وهم متنورو الأمة – أن ينشئوا المدرسة الاجتماعية ويضعوا لها الكتب العلمية والروائية والشعرية ويدبّجوا لها المقالات العديدة. وإني انتهز هذه الفرصة لأقول كلمة – بيننا – وهي: إن الأدب اللفظي أدب عقيم، وهو فوق ذلك مملّ لأنه قديم وذو وتيرة واحدة.
لقد آن الأوان للقيام بنهضة أدبية جديدة في الاجتماع والأخلاق وعلم النفس والفلسفة الأدبية إلخ، تكون باعثاً على إيجاد تربية اجتماعية صحيحة تضمن سلامة هيئتنا الاجتماعية وتنمّي النشء على قواعد الحرية والثقة بالنفس، وتثبته على أسس الأخلاق الصحيحة، فيخرج جيلاً قوياً منتجاً يرفع شأن قوميته ووطنه.
بدون تربية اجتماعية صحية، يظل نظامنا الاجتماعي الفاسد على منواله. رجل مستبد وامرأة مظلومة ونشء فاسد. وكل رجاء يعلق على هذا النظام لا تعلو قيمته على قيمة أضغاث الأحلام.
“صوت الأحرار” – 24 كانون الثاني 1931