يُخيل إلى كثيرين في العالم العربي أن السبب الرئيس لأقامة التعليم الرسمي المجاني هو لمساعدة الفقراء والغاء الامية، الا أن الاهداف البعيدة المدى التي حدت بالدولة الوطنية (أي الدولة-الامة) إلى ارساء نظام تعليمي رسمي مجاني والزامي هي غير ذلك.
إن إرساء مبدأ التعليم الرسمي المجاني هو النتيجة الطبيعية لنشوء الدولة القومية/الوطنية بدءا من الغرب، ومن ثم انتشارها لتعمّ العالم أجمع. وكل تطوّر نراه اليوم هو نتيجة ترسيخ مبدأ الدولة-الامة، ذلك أن لا قيامة لدولة وطنية دون وجود المدرسة الرسمية التي ترعاها الدولة الوطنية وتثبت فيها الانتماء الوطني والهوية الوطنية منذ دخول الطفل إلى المدرسة وحتى تخرجه منها.
إن تمويل الدول الغربية للتعليم الرسمي ورفض هذه الدول السماح باقامة مدارس خاصة الا فيما ندر، ينشد الى تنشئة جيل متجانس الهوية، متجانس الثقافة واللغة، متجانس القيم الوطنية، لذلك يرفد مدارس الدولة الرسمية في الغرب، الغني والفقير، ولا يتم الفرز بينهما الا في المرحلة الجامعية التي تسمح بانتشار الجامعات الخاصة المكلفة.
أما عندنا، في لبنان، مفهوم المدرسة الرسمية والجامعة المسماة “وطنية”، ليس الا محاولة تعليم الطبقات الفقيرة والمُعدمة، وبالتالي يُنظر الى المدرسة الرسمية والجامعة الوطنية كأدوات تعليمية متخلّفة، ومعاييرها متدنية كونها مجانية، ومحصورة بالفئات الكادحة. بينما شرائح الطبقة الوسطى وما فوق، لا تتوانَ عن ارسال ابنائها وبناتها إلى المدارس الاجنبية الخاصة الباهظة الاقساط المدرسية. وهذه المدارس الاجنبية تعلّم الطفل تاريخ بلدانها، لا تاريخ بلده وتجعله يكره بيئته التي يعدها الغرب بدائية. أما المدارس الدينية، فهي أيضا تساهم في بثّ الفرقة بين المواطنين، وخلق هويات متنافرة ومتضاربة تقود الى تدمير النسيج الاجتماعي الوطني.
1 ـ ترسيخ الهوية الوطنية الجامعة:
الهدف الاول والاساسي للتعليم الرسمي المجاني والالزامي في الغرب والشرق الاقصى أيضا، هو ترسيخ الهوية الوطنية للمواطن. يأتي هذا البند على رأس القائمة خاصة في مراحل السنوات الاولى للدراسة، وتلعب مادة التربية الوطنية دورا مهماً للغاية في بلورة الشعور القومي/الوطني الذي يتخطى الانتماء القبلي، او العشائري، أو الديني، أو الاثني. وبدلا من ان بتم التشديد على اهمية مادة التربية الوطنية في المدارس الرسمية بشكل خاصّ، لجأت الحكومة اللبنانية علم ١٩٩٨ الى الغاء هذه المادة واستبدالها بدراسات دينية، اي ترسيخ حالة التفسخ الاجتماعي والانقسامات الطائفية التي طغت على المجتمع اللبناني ورسختها الحرب الاهلية التي دامت عقدا ونصف من الزمن، ولا نزال نعاني من تبعاتها بعد مضي أكثر من ربع قرن على انتهائها!
ان الغاء مادة التربية الوطنية من المدارس الرسمية جريمة بحق الوطن.
والوسيلة الناجعة هي في كتابة قصص مصورة وسهلة للأطفال تذكرهم ببطولات أجدادهم من المذاهب والأديان كافة، أو تشدٌهم الى القيم المثلى التي يجب اتباعها في حياتهم اليومية، كما على القصص أن تحكي عن صداقات أطفال من مذاهب دينية مختلفة ومغامراتهم معا في بقاع مختلفة من جغرافيا الوطن. كذلك يلعب كتاب التاريخ دورا أساسيا في خلق فضاء مشترك للشبان والشابات لأن تاريخهم الماضي على أرضهم المشتركة، تاريخ واحد خبروه معا دون أي استثناء.
أما في المراحل الدراسية المتوسطة والثانوية، فيتوجه الاهتمام إلى دراسة الدستور والنظم السياسية التي يتبعها الوطن ما يشجع هؤلاء الطلبة على المشاركة في العملية السياسية لاحقا، ويحثهم على الالمام بقضايا بلادهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية ما يجعلهم يساهمون في رفع شأن وطنهم ومجتمعهم.
2 ـ المنهاج التعليمي:
عدا عن المقررات التي تعتمدها وزارة التربية، على التعليم الرسمي أن يكون على مستوى عال وأن يحقق النتائج التالية:
أ – التمكن تمكنا تاما من اللغة العربية لأنها اللغة الاساسية واللغة الأم، ولسوء الحظ لقد ظهر ضعف كبير في كتابة هذه اللغة مؤخرا ليس فقط في لبنان، بل في كافة الدول العربية.
ب – الالمام بلغة ثانية مهم جدا في هذا العالم التنافسي والمنفتح بعضه على البعض الآخر.
ج – معرفة تداول المعلومات عبر الحاسوب الذي تحوّل الى أداة لا غنى عنها للمعرفة في القرن الحادي والعشرين.
3 ـ التعليم الجامعي الرسمي:
من الضروري في هذه المرحلة بناء قواسم ثقافية مشتركة لذلك تعمد الجامعات الوطنية على ادراج مواد الزامية لجميع الطلاب والطالبات مهما كان نوع اختصاصاتهم في كليات العلوم أو الآداب، ويتمحور الهدف حول بناء أرضية ثقافية مشتركة للمواطنين والمواطنات يعتبرون أنها تمثلهم وتميزهم عن غيرهم من الثقافات. من المهم للغاية اقامة منهاج من هذا النوع في كافة الجامعات الخاصة والعامة – والتي تلزم الطلاب في السنوات الجامعية الاولى دراسة حضارتهم منذ بداية تاريخ الارض التي يعيشون عليها، بلا تمييز بين مرحلة وأخرى، ابتداء من المجتمع القبلي فالديني وانتهاء بالمجتمع القومي/الوطني الذي هو الحالة السائدة في العالم اليوم ما يحفز الطالب على الاهتمام بوطنه، والحصول على المعرفة التي تخوله الدفاع عنه والمحافظة عليه. وللوصول إلى المعرفة البناءة يجب الاستعاضة عن التلقين بالتعليم النقدي الذي يحث الطالب على التفكير المنطقي والممنهج لأن هذه المقاربة ستنتج مواطنا ليس فقط متخصصا في حقله، بل مبدعا يستطيع تقديم الحلول الناجعة للمشاكل القائمة لأنه سبق وتدرب على هذا الامر خلال دراسته الجامعية. فالعلم ليس علما من أجل العلم، بل من أجل تطور المجتمع والانتصار على التحديات. من هنا يجب ربط العلم بإدارات الدولة ومتطلباتها، فتبادر الوزارات المعنية بالطلب من الكليات الجامعية أبحاثا يقوم بها الطلبة والاساتذة استجابة للمعضلات التي تواجهها هذه الوزارات أو الادارات، فتصبح حينئذ هذه العلوم مرتبطة ارتباطا وثيقا وعضويا بالواقع العملي لمجتمعها بدلا من هدر الطاقات وركونها الى صومعات وأبراج عاجية أبعد ما تكون عن المساهمة الفعالة لبناء وطنها. علاوة على ذلك، هذا التنسيق والتعاون بين متطلبات الدولة وكفاءات الطلبة سيؤدي حتما الى ادماج الطلاب في عملية مسيرة الدولة والتزامهم بالبحث عن الافضل لها وادراكهم أن ما هو أفضل لها هو أيضا الافضل لهم.
هذه الديناميكية بين الجامعة ومؤسسات الدولة هي السبيل الانجح في تحفيز المؤسسة والجامعة معا، فيتحول فيها الطالب الى مواطن مساهم في البناء بدلا من الشعور بالغربة والتهميش نتيجة اهمال مؤهلاته فيلجأ إلى الهجرة وينتج عن ذلك نزيف الادمغة، وهدر الدولة أموالا طائلة المفترض بها أن تكون ثمن مقايضة معرفية واستثمارا مستقبليا لا غنى عنه، لكنه، بدلا من ذلك، يتم اجهاضه.
الدكتورة صفية سعاده