الدوائر التي لا تنغلق

تبتلي التجمعات البشرية بالأزمات الخانقة وربما القاتلة قد تطال وجودها ومصيرها، ولكن هذه التجمعات تسعى بشكل حيثيث إلى حل هذه المعضلات حسب درجة تحضرها، فمنها من تضع نفسها وقوداً لإذكائها، ومن من يتحول إلى إطفائي قد يضحي بنفسه من أجل إطفائها، وبهذا تكون هذه الجماعات قد حسمت قرارها بالبقاء في الوجود، متلمسةً أطراف طرق التحضر للسير بها.

والعنف غير المقونن، واحد من أزمات العيش غير المتحضر، خصوصاً أن الحضارة صارت معلنة وواضحة، وتسعى إلى قوننة العنف إن كان على المستوى المحلي أو العالمي، ومع هذا يبقى العنف عنواناً لمعضلة التظالم بين طرفين أو أكثر، لديهم نفس إدعاء السعي إلى التحضر، وهنا يحسم القوي المسألة لصالحه، وهذا الحسم في حقيقته فرصة لإعادة النظر في إستعمال العنف، فالبشرية لديها مصالح أخرى عليها أن تتفرغ لها، وإعادة النظرهذه تتضمن بالضرورة التحوط من الوقوع في العنف مرة أخرى، فالدنيا مليئة بالمصالح التي تحتاجها الناس، وتحقيقها هو نفسه هو عملية التحضّر بذاتها، وإذا لم تفعل تلك التجمعات ذلك ( خصوصاً إن لم تكن مجتمعات)، فقد حكمت على نفسها بالويل والهوان ولن يخرجها دورانها المتوالي، إلا قوة الفناء، بمعنى الخروج من دائرة الأداءات التحضرية للإستمرار في الدنيا، وذلك بالخروج من دوائر العنف غير المقنن، للدخول في عملية تحضّرية تسمى نهضة (إن شئتم) أو يمكن أن يطلق عليها اللحاق بركب العالم المتحضر بإغلاق دائرة العنف إلى أبعد مدىً ممكن بحيث يصبح هذا الإبتعاد، من ضرورات التربية المجتمعية، وبالتالي إغلاق دائرة التعانف، والإنطلاق بمركبة التسالم ( وليس التسامح) من أجل البدء بتأسيس المجتمع بمعناه الحديث والمعاصر.

ما الذي حدث في جنوب أفريقيا ورواندا كمثال؟، حصلت عدالة إنتقالية ومصالحات، ونحن الآن نتذكرها أكثر من المذابح والتظالمات التي أدت إلى هذه المصالحات، لإنها وببساطة موقف تحضري نبيل وأخلاقي، ونهاية سعيدة بعد كل آلام التذابح التظالمي مهما كان سببه وعمقه وإمتداده في الماضي، وهذا إذ يدل على شيء، يدل على إرادة التحضر عبر الحفاظ على أولوية المصالح الجمعية من جهة، وعلى صدق منتجات الحداثة ودقتها وإيجابيتها، عبر إيقاف دائرة “المظلومية” المتناسلة في هيجان أعمى لا نهاية له بشروطه.

والمظلومية في أدنى تعريف لها (هي ذريعة ظالم لاحق للحلول مكان ظالم سابق) ، أي أن الظلم نفسه هو آلية تحقيق العدالة، وفي هذا خطورة كارثية على الوجود، فالشعور بالإنتهاك الحقوقي يبرر للمنتَهك أن يقوم بنفس أفعال المعتدي فيتحول إلى ظالم حسب درجة قوته وديمومتها، ولكن الحياة لا تبق الأحوال على حالها لتدور الدائرة ولا تنغلق إلا بتصرف متحضر بعيد المنال عن يد هكذا نوع من الجماعات البشرية، فتستمر الدائرة بالإنتهاك، وتستمر الجماعة البشرية بالتراجع المدني والحضاري، إلى حضيض الهزيمة والجوع والفزع، وهذه ليست بصفات قابلة للتفاهم بها مع البشرية.

وتعود المظلومية إلى عادات الثأر البدائية، والتي توقفت مع بروز المجتمع الحديث الذي أفرز الدولة، التي تعاقب الظالم تلبية لمصالح متعاقديها، وليس من أجل التشفي وإرواء الغليل، فالمجرم (الظالم) يحاكم، وفقط يحاكم، وبعد إثبات التهمة عليه يصار إلى معالجة معاقبته بالحكم عليه حسب القوانين المكتوبة والمعلنة، بالتوازي مع الترميم المجتمعي لآثار جريمته، وإلا ( وهنا إلا تحذيرية)، سيتساقط هذا البناء الإجتماعي، حجراً وراء حجر، ومدماك إثر مدماك، ولا نحس ولا ندري‘ إلا والأرض خراباً لا تحتاج إلى من يفسد فيها.

الظلم هو إنتهاك قانوني حقوقي، تدركه الجماعات ذات الإجتماع الراقي، و يحتاج إلى رفعه أو حتى ردعه آلية حقوقية، تعرفها “المجتمعات” حصراً، بسبب إجتماعها على ثقافة حقوقية لها آلياتها في التعبير عن الإرادة، وبالتالي أية ثقافة عمومية غير حقوقية، سوف تحول هذا الظلم إلى مظلومية، عبر خطاب ديماغوجي هياجاني لحشد أكبر عدد من الغاضبين، الذين لا يرويهم إلا ظلم مقابل رادع، وبهذا يحافظ الظلم على مكانته الفاخرة برغم الإدعاء بإيقافه، ليتحول إلى قيمة سكانية (غير مجتمعية) عليا، يتحين السكان ممارستها كلما اشتمّوا رائحة القوة في عضلاتهم وأسلحتهم، أو اشتمّوا الضعف في غريمهم، ليصير الإستقواء مرادف للظلم وتسقط قيمة نبيلة أخرى.

من المؤسف تماماً، أن نعيد التذكير بالبداهات المدنية والحضارية المتداولة في العالم منذ أكثر من قرن، ومن المخجل تماماً تجاه إنسانيتنا أن نتباهى بالمذابح، ونهمل النصر على التحديات الوجودية، مما يصنع سيرورة نكوصية، لكل أدوات تسديد الحاجات العامة، بالإضافة إلى توقف عملية تأسيس “المجتمع” إلى أجل غير مسمى، فالتنظير لإجتماع بشري بناء على ثقافة المظلومية، وليس الثقافة الحقوقية، فيه إنهيار (ليس أقل) للقيم المؤسسة لمجتمع الشبع والمنعة، وبالتالي لا يحتاج الأمر إلى ذكاء من أي نوع لرؤية الخراب القادم على أي نوع من أنواع إجتماعات ما قبل المجتمع، فالدائرة المنفلتة للمظلوميات سوف تفعل فعلها، حالياً أو لاحقاً، لإن المظلومية نفسها تجبر الآخرين على إنتاج مظلومياتهم بنفس مستوى خطورتها، حيث يتحول ما كان مشروع مجتمع، إلى آخر له كامل الحق بالثأر من نفس المنظور وبنفس التنظير، لتصبح المسألة بهيمية تماماً، حيث تدور دوائر القوة والضعف، ليصبح الأدنى أعلى والأعلى أدنى، لتبدأ المذابح من جديد.

حروب المظلوميات، هي حروب بلا مصالح، لإنها لا تنتهي على خير لصالح الجماعة السكانية، والنتائج ليست صفرية في هذه الأيام بل نتائج سلبية، فالوجود في هذه الدنيا أصبح وجوداً مقارناً، نتيجة للمصالح الكبرى التي لا تستطيع أية جماعة بشرية النأي بنفسها عنها، وهذه المصالح تتضمن مقومات إعتدائية وردعية دون أن تلجأ إلى العنف، يكفيها أن تترك المتخلفين يرسفون في تخلفهم لتهزمهم شر هزيمة، وتطردهم إلى منعزلاتهم يمارسون فيها فضائلهم الدموية. للأسف لا زلنا نعيد نفس المعلومات المعلنة منذ مئة وخمسون سنة، وما زالت هناك تجمعات سكانية تأبى أن تحولها إلى معرفة.

نجيب نصير