ذكريات بيروتية من الزمن الجميل!

«إن الوهم الاجتماعي يسيطر اليوم على كل أنقاض الماضي المتراكمة، والمستقبل بدون شك. فالجماهير لم تكن في حياتها أبدا ظمأى للحقيقة. وأمام الحقائق التي تزعجهم فإنهم يحولون أنظارهم باتجاه آخر، ويفضلون تأليه الخطأ، إذا ما جذبهم الخطأ.«

«غوستاف لوبون»

 قبل الحرب الأهلية التي اجتاحت لبنان في سبعينات القرن الماضي؛ كان اللبنانيون يتشدّقون بوطن الأرز على أساس أنه نسخة معدلة ومحسّنة  ل«سويسرا» الأوروبية وأطلقوا عليه لقب سويسرا الشرق، ولكن في حقيقة الأمر كان لبنان بلداً مرعباً ؛ مرعباً في كل شيء، مرعباً في فقره وفي تفلّت الأمن فيه وغياب سلطة الدولة واستيلاء العصابات على قراه وبلداته ومدنه، و كان لكلّ حيّ، قبضاياته وشبّيحته، شبّيحته الذين يحتمون برجال السياسة الأشاوس الذين حملوا لقب زعماء، فكانوا زعماء الفوضى والقهر والتسلّط وحكم الفئة والجهة والعائلة والطائفية القاتلة وأخيرا العمالة، ودعاة كل مكروه خاصّة الفقر الصامت المنتشر كالطاعون ولا أحد يجسر على الاعتراض، إذ تفننوا في سرقة لقمة الفقير وقهره !

 فإذا قام شاب ثائر لكرامته وللقمة أهله؛ واعترض قامت قيامة الاقطاعي الوجيه ومن ورائه رجال الدين، وتوجّه باللوم إلى والد الشاب الطموح الثائر، واتهم الوالد المغلوب على أمره بسوء التربية وأنّبه كما يؤنب القاصر بجملة تتكرر إلى ما لا نهاية وكأنها آتية من جحيم:

هالمرة يا ابو … رح سأمحو ل «هال…روت» ابنك؛ بس المرّة الجايي ما رح يمشي الحال وما رح تكونوا مبسوطين أنا عم قلك من محبتي لبيتكن صدقني (فعلا شو قلبو كبير).. ويتابع قائلا: صدقني الزلمة الكبير ما رح يرضى…

وما أدراكم من هو «الزلمة الكبير» الذي يستشهد به الوجيه أو الزعيم الذي هو بعبع البسطاء والفقراء! 

هكذا كان بلد العسل والبخور والذهب والفضة والرفاه، كنت صغيرا بعمر خمس أو ست سنوات ذهبت إلى «البلد» أي بيروت وساحاتها المعجوقة الصاخبة، رفقة المرحوم والدي، دخلنا إلى أحد محال الحلوى التي تزدحم فيها أنواع الحلويات العربية منها والأجنبية من كاتو وبيتي فور والشوكولا.

وبينما كنا ننتظر دورنا دخل إلى المحل رجل مفتول العضلات يرتدي قميصا مفكوكة الأزرار، حليق الرأس وله شاربان بارزان مقرنبان يقف عليهما الصقر كما يقال؛ دخل المحل مقتحماً وهو يوزع على الزبائن والعمال والموظفين نظرات شر وحقد وكأنه يهم بشرب دماء الجميع، ودار حول الكونتوار الكبير حيث تقف الآنسات اللواتي تعبئن الحلويات في علب الكرتون، وانتقى علبة شوكولا مغلّفة بالنايلون ووضعها تحت إبطه وخرج كما دخل من دون أن يكلّم أحدا أو يعترضه أحد من الموظّفين أو الزبائن!

التفتّ إلى والدي وسألته:

بابا مينو هيدا ليش ما دفع حق علبة الشوكولا، ليش ما حدن قال له شي؟

وللحال رمقني والدي بنظرة مرعبة أي اصمت ولا تفتح فمك، وكنا في ذلك الزمن نفهم من الإشارة وتعابير الوجه، وقال لي: بعدين بعدين. وهو منزعج من سؤالي فشعرت بغصة وخوف شديدين وأحسست أنني قمت بعمل سيء للغاية وما كان عليّ أن أنبس بكلمة وكانت ضربات قلبي تتسارع، قلب الولد الصغير الذي اجتاحه الهلع بشكل مزدوج: من الرجل الذي يشبه عزرائيل ومن الغلطة الكبيرة التي اقترفها لأنه تكلم وزعل منه البابا!!…

عندما خرجنا ومعنا مشترياتنا من حلوى وأغراض أخرى؛ بادر أبي وقال لي وكأنه يشعر بواجب اطلاعي على ما حدث:

هيدا قبضاي يلي فات على المحل، ما حدن بقلو شي، بيعمل شو ما بدو، ضهرو محمي ….

فسألت والدي: ليش ما صاحب المحل بيطلب الشرطة؟

فصمت والدي ولم يجب على سؤالي والمرحوم والدي كان قليل الكلام في الأصل، صامت ابدأ.. لا يحلّ ولا يربط كما يقولون، بل يحافظ على صمته الدهري كما كل الصابرين في هذا الوطن الرائع مشتهى كل الشعوب والأمم!

في ذلك النهار تعلمت أول امثولة في حياتي الفتيّة الضبابية حياتي التي كلها تساؤلات من دون أجوبة، امثولة مفادها أن من يسيطر في وطني هم الزعران والشبّيحة زلمة الزعماء والسياسيين ورجال السياسة الأذكياء كما كانوا يلقبونهم ويتندرون أخبارهم وكأنهم ربحوا جائزة نوبل في الرياضيات، رجال سياسة لم نشاهد من ذكائهم المفرط سوى أنهم سرقوا البلد.،

أجل زعران الشوارع التي قلّما مرّ نهار عليها من دون مشاكل وسقوط ضحايا وسحب سكاكين وإطلاق نار. من مسدسات ورشاشات حربية حتى،بلد اندلعت فيه الحروب الصغيرة وعمّت ربوعه الجرائم من عشرات السنين، خاصة في بيروت عاصمة البلد الطائفي بامتياز إذ حين كنّا ندخل المحال التجارية والألبسة نتعرّف حالا على انتماء أصحاب المحال السياسي والطائفي من الصور التي كانوا يعلقونها ؛ الزعيم المصري جمال عبد الناصر أو كميل شمعون، كامل الاسعد ام بيار الجميل وصائب سلام وعشرات غيرهم ….

إنه بلد فريد من نوعه بلد «الماء والخضرة والشكل الحسن»  شعار وزارة السياحة في سبعينيات القرن الماضي، وفي يومنا الحالي لا بقي فيه ماء ولا خضرة ولا شكل حسن! المهم أن نفرح بنجاة الزعماء فخر الوطن وعراقة التراث، وبقاء الطائفية زلا يتبدل شيء حتى لا تخرب الدنيا، صحيح ثمة أشياء لا تتبدل أبدا …

أنطوان يزبك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *