المجتمع وتطوره: تطور الثقافة العمرانية

المجتمع وتطوره: تطور الثقافة العمرانية

إن تتبّع تطور الثقافة العمرانية يتم عبر تتبّع مدى تنظيم الإتسان لمجتمعه، لأن النظام الاجتماعي يتشكل من خلال تفاعل الإنسان مع بيئته، فالتفاعل هو مقدار أعمال الإنسان مع البيئة أو الطبيعة الموجود فيها، فقياس النسبة بين حصول أسباب عيشه والعمل المبذول في هذا السبيل، هو الذي يدل على قيمة أية مرتبة ثقافية، لأن تطور أنظمة الاجتماع يحدث ضمن نطاق هذه العلاقة، فالتطور الإنساني محتّم بالاختيار الطبيعي وليس العقلي، والتطور الاجتماعي هو نتيجة التفاعل بين الإنسان والبيئة، فالعقل هو نتيجة تطورات الدماغ الفيزيائية، بينما العقلية الاجتماعية نتيجة تطورات التفاعل المادي لتأمين الحياة الاجتماعية.

    إنّ العمل ونظامه التعاوني هو مصدر نظام الاجتماع وأساس بناء المجتمع، وهذا التعاون مبني على نوعين، الأول وهو التعاون البسيط، هو أحادي المجهود كالصيد وتحريك الصخور، والثاني وهو التعاون المركب، كالبناء وتنوع أغراض المجتمع العمرانية، في عصر الزراعة الأولية المتقدمة، برزت حاجة التملك العقاري، والارتباط بين الإنسان وحقله وبيته، وأصبح للعائلة كياناً اقتصادياً مستقلاً عن العشيرة، فأصبحت حاجة العائلة للبيت الكبير ملحة وأصبح أصحاب هذه البيوت من طبقة الأشراف، ونشأت طبقة الخدم من أسرى الحرب المستعبدين عند أصحاب البيوت الكبيرة، ومن الذين لم يحصلوا على نصيب وافر من الأرض الصالحة للزراعة، وهكذا بدأ التمييز الاجتماعي يقود التمييز الاقتصادي، وبرزت طبقة الأشراف الملاكون، وطبقة العامة (العبيد والصنًاع الأحرار) التي كان كل فرد منها مختص بعمل معين كصنع شباك صيد السمك، وصنع الزوارق، والنجارة، وقطع الحطب والطبخ والخدمة المنزلية، وبزوال المساواة زالت شيوعية الغذاء والملك والعمل، كما بدأت تتلاشى العشيرة لصالح القرية، التي هي بداية العمران.

    ابتدأ العصر المعدني في سورية وفي مصر، مع الكلديين والكنعانيين، على مجرى الفرات ودجلة، ووادي النّيل، الذين عرفوا المعادن والتعدين، وفي هذا العصر ابتدأت الحضارة ترتقي بترقية أحوال الفلاحة والتسميد والاعتناء بالأشجار المثمرة وتنويع الزرع، ودخل المحراث في العمل لسد الحاجة بواسطة الزراعة، فتم الاستغناء عن جزء كبير من الجهد البشري، وتم توجيهه إلى سد الأعمال الحاجية، وبدأ العمران يتوسع إلى خارج نطاق القرية، وترقّى النظام الاجتماعي إلى ما يزيد عن إمارة القبيلة وتعيين العلاقات بين السادة والعبيد.

    مع ازدياد الحاصل الزراعي بسبب دخول المحراث والتسميد، أصبح بالإمكان تغذية عدد كبير من السكان الذين بدأوا يوطدون إقامتهم في الأرض بتثبيت العمران وتوسيعه، فنشأت المدن مترافقة مع ازدهار صناعة الطب، وفنون الحرب والنحت والنقش، وارتقى تبادل المحاصيل والمنتوجات إلى حد كبير، ومع كل هذا التقدم في الثقافة العمرانية بقيت الحياة العقلية ابتدائية، وساهم نمو العمران واتساع نطاق التمييز العملي في رفع مستوى المعيشة.

    إن ارتقاء التعاون المركب في المدينة أدى إلى وجود نقص في الحاجات الكمالية، مما أدى إلى اتخاذ الحرب المنظمة كوسيلة للتعويض عنه، ووسط هذه الحروب، وفي هذا النقص العمراني عن بلوغ مستوى راق من الثقافة الإنسانية، لم يغرق الكنعانيون في الحروب، بل اهتموا بترتيب ثقافتهم الاقتصاديّة على أساس زراعة راقية غنية جداً حتّى سُميت أرضهم بالأرض التي تفيض لبناً وعسلاً، واستطاعوا التغلب على صعوبات الحاجات العمرانية، وتنبهوا إلى التوسع والحصول على أكبر نصيب من كماليات العمران، عن طريق التجارة، وأنشأوا المدينة البحرية التي تميزت بخصائص ثقافية، أوجدت تلاؤماً بين شؤون سلوك البحر وشؤون الزراعة، وبرزت زراعة البستان التي جمعت بين الأشجار المثمرة والبقول والحبوب.

    مكنت التجارة السوريين من التعويض عن فقر أراضيهم في المعادن، والمواد الخام الضرورية لمجتمعهم الآخذ في الارتقاء المُدني، كما مكنتهم من الانتقال إلى طور آخر في العمران، هو طور الاستعمار الذي أدخل البحر المتوسط كله في ثقافة بدء التمدن الحديث، وخطا الكنعانيون والآراميون إلى ثقافة الإنتاج التجاري التي امتدت إلى موارد واسعة، ما أدى إلى ترقية فن سلوك البحار، وربط أماكن المواد الخام بمراكز الثقافة التجارية الجديدة، فكان التقدم من الوجهة العمرانية الاقتصادية عظيماً.

    كان على سورية أن تكمل ثورتها الثقافية، فاستنبط الكنعانيون الأحرف الهجائيّة فتمت قاعدة التمدن الحديث، وفي طور الثقافة الزراعية الصناعية، نجد نمواً في النّظام الاجتماعي الاقتصادي القائم على ثلاث طبقات: الأشراف، الصّنّاع الأحرار والعبيد، فزال نظام العشيرة التي تضم قرى، وحل مكانه نظام الدولة الملكية ثمّ الجمهورية.

    نظمت الثقافة التجارية العمل في وحدات مشتركة وأوجدت معنى الرأسمال، وهو من أهم عوامل تنظيم المجتمع العمراني، ولكنه لم يكن عاملاً في تنظيم الاقتصاد والعمل، لكنه كان يعطي ربحاً ينمي الثروة القومية التي أصبحت في هذا الطور تحت حماية الدولة، ونشأ الاقتصاد القومي الذي لا يزال يسيطر على المجاميع البشرية والثقافة المدنية الحاضرة.

    وفي هذه الثّقافة توزع العمل، وتميز بين الرجال، أما المرأة فبقيت ربة البيت وكان عملها هو القيام بجميع شؤون المنزل، و كانت الحرفة تبقى في العائلة، يعطيها الأب لابنه وللأقربين إليه، وقد تمكنت التجارة الفينيقية من أن تزيد العمل بواسطة العبيد الذين كانوا يشترونهم ويوزعونهم على الأعمال المختلفة، فظلت العائلة محتفظة بمركزها أساساً للتنظيم الاجتماعي، وأصبحت تعتمد على الإنتاج التجاري المنظم بالرأسمال، الأمر الّذي أدى إلى ما عُرف بالعمل البيتي للصناعات اليدوية.

محمد جميل عليان