يحاصرنا الإعلام..

هناك قاعدة عامة في بلادنا تفيد بأنّنا نحسن انجاز الانتصار العسكري ونفشل في المحافظة على ثماره في مراحل ما بعد الحروب. هذه سمة حركات المواجهة والمقاومة في بلادنا، وربّما من المجحف تحميلها وزر سقوط ما بعد الانتصار، لا بل من المنصف الإضاءة على حنكة العدو وسقف قدراته الكبيرة في الاقتصاد والتكنولوجيا والنفوذ السياسي. حسنًا، ولكن دائمًا ما تدفع شعوب بلادنا الثمن. ثمن قد يكون مقبولًا لدى المؤمنين بأحقية المواجهة ورفعتها وضرورتها ومبدئيتها، ولكن هذا الثمن المرّ يساهم بتحويل ضعاف النفوس، أو أولئك الذين تغلّبت عليهم الظروف، إلى منصة يتسلل من خلالها العدو المهزوم إلى الداخل. وليس من باب اتهام بعض أبناء شعبنا بالتخاذل، لا بل من منطلق أن قدرة البشر عمومًا على تحمّل المشقّات والأزمات تتفاوت فيما بينهم، فيضحي الألم مهما كان نوعه حاجبًا للحقائق، وتصبح الحاجة هي أمّ المواقف!
بعد حرب تموز عام 2006، والتي سجّلت واحدة من أهم وقفات العزّ في تاريخنا المعاصر، لم يستطع الفريق الممانع للرغبة الأميركية في لبنان من أن يحكم. مشهد غير مألوف في أي دولة من دول الصراع، فحتى ما سُمّيت هناك بال”مقاومة الفرنسية” حكمت فرنسا ما بعد الحرب.
حتى بعد السابع من أيّار 2008، حين أجهضت المقاومة مخطّطًا فتنويًا هدف إلى ضربها، ذهبت بما تمثل سياسيًا إلى مؤتمر للمصالحة أتت بعده بالمتآمر فؤاد السنيورة رئيسًا للحكومة، وارتضت بالهش جدًا ميشال سليمان رئيسًا للجمهورية.
وبعيدًا عن الجزم بأسباب هكذا خطوات، أكانت قصر نظر سياسي لمن يحسن قتال العدو عسكريًا، أم أنها كانت خطوة حكيمة درأت مخاطر الحصار عن البلد، إلّا أنّ النتيجة كانت واحدة، وهي استمرار الخارج بأدواته الفاسدة بدعم تجفيف المالية العامة اللبنانية واستمرار تسلّطه على الرقاب وصولًا إلى الانهيار الكبير آواخر العام 2019. التعمّق بما يحصل قد يوصلنا أيضًا إلى نقطة فشل المقاومة وحلفائها باختيار البدلاء، وتأمين استمرارية الحكم بعيدًا عن النفس الأميركي، ولكن الأكيد أن الإنجاز العسكري بدّد مفاعيله الحصار السياسي والانهيار الاقتصادي!
مشهد ال2006 وال2008 في بيروت يسعى الأميركي لتكراره اليوم في دمشق. الدولة السورية بجيشها وقيادتها وشعبها وحلفائها انتصرت على مشروع أحادية الكيان الغاصب. مشروع أراد تفتيت الشام لدويلات مذهبية وطائفية، بتمويل غربي وإقليمي، من أجل التمهيد لإعلان “يهودية الكيان”. انتصار الشام عسكريًا على مئات آلاف المقاتلين المدعومين والمدرّبين والمجهّزين لضرب مفهوم الدولة وإعلاء رايات الإرهاب من جهة، ورايات التقسيم الفئوي والمذهبي من جهة ثانية، دفع بالطبع المخطّطين إلى سلوك مسار الخطة باء، خطة يهدفون من ورائها إلى إسقاط مفهوم الدولة بالحصار الاقتصادي لا بالعسكري، مصمّمين على أن يدفع من واجه ثمن مواجتهه، فيضعف ليسقط ما بعد الانتصار.
القيادة السورية، رغم الحرب الكونية الفعلية عليها، رفضت مساومة أحد في السابق، ولا تزال ترفض اليوم. رفضها يضاعف من شدة الحصار عليها، ويطيل أمده، وتحت وطأة الحصار تصل إليها الوفود لابتزازها! إبتزاز أحسنت ترويضه دبلوماسية الرئيس حافظ الأسد طوال عقود ماضية، واليوم يتذوّق رجب طيب أردوغان علقم عدم المساومة، لدرجة أنه خرج ليجاهر برغبته بالتنازل، بعدما كان قبل سنوات يتحضّر ليصلّي الجمعة في أموي دمشق!
ولكن من ينتصر أخيرًا؟
لا شكّ أن في السياسة الحالة اللبنانية مختلفة عن الحالة الشامية، وأن شعوب المنطقة باتت تؤمن أن دول القرار الواحد يمكن لها تحصيل حقوق شعوبها على درجة متقدمة أكثر من دول القرارات المتعددة. وعليه، بيد الشام وقيادتها اليوم الكثير من الأوراق لتلعبها، والرهان على قصر نفس السوريين هو رهان من لم يقرأ التاريخ أبدًا. في السياسة والاقتصاد والأمن يرتبط استقرار المحيط كل المحيط بقرار دمشق، وهذا ما باتت تدركه اليوم عواصم القرار، التي تعيد مراكز دراساتها مراجعة مرحلة ما قبل ال2011، فإن خسرت بلادنا اليوم نتيجة الحصار، هناك خسائر أقسى وأشنع على من سقط مخطّطه فوق تراب الشام، ولكن في الواقع هناك حقيقة مُرّة تعمل هي كل مرّة على إدخال منطق الهزيمة إلى اللاوعي لدى أبناء شعبنا وهي “الإعلام”. هنا، وفقط هنا، يمكن القول فشلنا وانتصروا علينا.

ماهر الدنا