نوجه النظر إلى الاهتمام الجدي عند البحث في أي مشروع تحرري قومي، أن يكون هناك رؤية واضحة، والإعلان عن رسالة قومية نلتزم بها لتحقيق غايتنا من النضال، تنص رؤيتنا على بعث نهضة قومية شاملة، وإقامة جبهة عربية، أما رسالتنا فهي بناء الإنسان الجديد المتحرر من الإقطاع والعشائرية والطائفية والأنانيات الفردية، وبالنسبه للمهمة فهي وضع خطة معاكسة لمواجهة الحركة الصهيونية ودولتها العنصرية.
إن المهمة تعني وضع خطة تنفيذية لتطبيق القواعد العامة لمنهج الحرب الشعبية الطويلة الأمد، أو حرب العصابات على كل أرض فلسطين، من الناقورة إلى خليج العقبة، ومن النهر إلى البحر، وهنا لا بد من دراسة وفهم عملية تطبيق المبادئ العامة لحرب الشعب أو حرب العصابات، بطريقة تتناسب مع جغرافية فلسطين ومحيطها، وأوضاعها السياسية والاقتصادية، وتحالفاتها ومواردها المالية والبشرية، كما يجب رصد مكامن القوة لدى الشعب ورصد جوانب ضعف العدو.
والخطة تعني إلتزام دقيق من قبل حزب أو فصيل أو فصائل بطريقة معينة، لإجبار العدو على الرضوخ لغاياته السياسية وبرنامجه السياسي، ووجود الخطة ضروري، يبرر بها الحزب أو الفصيل ما يقوم به من أعمال العنف، ويتحمل المسؤولية الأخلاقية المسؤولون السياسيون للحزب أو الفصيل، ويجب أن لا يحيد عنها ولا يتوقف عن ممارساتها، إلا ساعة تحقيق غايته السياسية المعروفة والمعلنة، ويتمثل هدف الخطة في إجبار العدو على الرضوخ للمطالب المشروعة للحزب أو الفصيل أو الجبهة، الذي يتولى القيادة للعملية العسكرية و السياسية، والحقيقة المرة أن شعبنا في فلسطين، كان يجهل تماماً خطة منظمة التحرير المغلفة بضباب شعارات الحرب الشعبية أو حرب العصابات أو شعارات تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني.
وما يؤكد ذلك قبول المنظمة بقرار مجلس الامن رقم 242 سراً منذ عام 1968، مما يعني القبول بتسوية تاريخية تعطي العدو ما احتله من فلسطين حتى عام 1967، يؤكد على ذلك أيضاً ما فاه به السيد هاني الحسن، وهو عضو اللجنة المركزية، في محاضرة له في لندن عام 1987، بما معناه قوله “لقد خضنا صراع موت أو حياة مع شعبنا لإقناعه بقبول تسوية تاريخية”، وكان هذا بتشجيع رسمي عربي، وبمعنى آخر أن الفلسطينيين أصبحوا لا يطالبون بأراضي عام 1948، وأصبحت “اسرائيل” مطمئنة أن وجودها مقبول ولا يهدده أحد، والتفاوض سيكون فقط على أراضي العام 1967، ومع المنظمة سيكون التفاوض سهلاً وسلساً.
إن هذه الخطة السرية، والقبول بالقرار 242 ترتب عليها ممارسات وأعمال عنفية إعلامية و موسمية، وأعمال بعيدة عن تدمير البنية التحتية التي لا تؤذي الكيان الصهيوني، ولا بأس من إلحاق بعض الأذى ببعض المدنيين هنا وهناك، وبعبارة أخرى كما قال كيسنجر “أن أعمال المقاومة عبارة عن خدوش بإمكان اسرائيل التعايش معها”،
كما تمثل ذلك في “الكفاح” في أروقة المنظمات الدولية لإحقاق “الحقوق” الفلسطينية، هذه المنظمات الدولية هي التي أوجدت هذا الكيان الصهيوني الغاصب، سواء ما يُسمى الجامعة العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي، أو الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والبنك الدولي إلى آخره…، والغريب في الأمر أنه لم يحدث أن حصلت منظمة على عضوية في المنظمات الدولية، قبل أن تصبح دولة مستقلة فعلاً، أو عضوية في الجامعة العربية أو عضوية المؤتمر الإسلامي، أو عضو في الأمم المتحدة قبل الاستقلال، وكذلك فيتنام أو الصين أو ماليزيا أو غيرها، فمن الواضح أن هناك من يشجع ويسهل ويمول ويبرر، علماً أن القرارات الصادرة عن هذه المنظمات غير ملزمة للأعضاء، وهذه المنظمات ليس لديها أجهزة تنفيذية لتنفيذ ما يصدر عنها من قرارات، و قد يلجأ بعض أعضاء مجلس الأمن الدولي، لتنفيذ القرار وفق مصالحهم، وأحياناً كثيرة خارج قرارات الأمم المتحدة، كما حصل في العراق، هذا عدا عن أنه لدينا تجارب مع هذه القرارات العديدة التي لم ينفذ منها شيء، سوى بالكفاح والنضال، وهذه تجربة حزب الله في جنوب لبنان، حيث أجبرت العدو على الخروج من معظم الجنوب اللبناني دون قيد أو شرط بعد 18 عاماً من الكفاح والتضحيات، ومئات الشهداء، وعدد من الأسرى، في الوقت الذي لم تتطوع أية دولة لإجبار الكيان الصهيوني على الانسحاب من مناطق محتلة من بلادنا في الهلال السوري الخصيب، وأمامنا تجربة فيتنام مع الفرنسيبن والأمريكان، وكذلك تجربة الجزائر، الذين أخذوا قضيتهم بأيديهم، وأجبروا فرنسا على التسليم بمطالبهم العادلة والمشروعة في الحرية والاستقلال، وكذلك تجربة جنوب أفريقيا، حينما لم تستجب العنصرية البيضاء لمطالب الشعب، أجبروهم عبر الكفاح المسلح على الرضوخ لإرادتهم.
فماذا ينتظر الفلسطينيون؟ فهل الكفاح الدبلوماسي والسياسي سيُجبر الكيان الصهيوني على الرضوخ لإرادتهم؟ أو أن دول منظمة المؤتمر الإسلامي ستتطوع لإجبار الكيان الصهيوني على التسليم بحقوق الشعب الفلسطيني؟ أو أن قرارات دول الجامعة العربية ستعيد لهم فلسطين؟ والى متى ينتظر الفلسطينيون (خطة عربية أو إسلامية) لتحرير فلسطين كما يقول السيد خالد مشعل؟ إن هذا لغريب عجيب، مثل هذا الكفاح من أجل الحصول على هدنة، فهذا لم يحدث في تاريخ حركات التحرر، وتاريخ الشعوب المناضلة من أجل الحرية، فواجب حركات التحرر المضي قدماً بالكفاح والضغط على العدو، وديمومة الصراع لإجبار العدو على عدم التقاط الأنفاس، وعلى التسليم بالحقوق المغتصبة وإعادتها إلى أصحابها.
إن قضية فلسطين شأن فلسطيني بالدرجة الأولى، وكذلك شأن شامي ولبناني وأردني وعراقي وكويتي… أولاً، وشأن كل أحرار العالم من العالم العربي والإسلامي وغير الإسلامي، إذا مدوا لنا يد العون و فق شروطنا نحن المجاهدين، إن فلسطين تم اغتصابها بالقوة، ولا يمكن استعادة حقوقنا بغير القوة، فالقوة هي القول الفصل في إحقاق الحق القومي كما يقول أنطون سعاده، فالكيان الصهيوني يحمي اغتصابه بالطائرات والمدافع والدبابات، وكذلك تحميه دول التحالف الثلاثي (أمريكا، بريطانيا وفرنسا)، إضافة إلى ألمانيا ودول الناتو، والشعب الفلسطيني يستطيع تغيير الأحوال وهزيمة العدو، وتغيير الأحوال في المنطقة كلها، فهو لن يقف وحيداً حينما يفعّل كل طاقاته، ويمارس كفاحاً جدياً ومؤثراً، بل سيساعده الملايين من أحرار العرب والعالم، ومن الطبيعي والأخلاقي أن يقوم الفلسطينيون أنفسهم أولاً بواجب الثورة، واستعادة حقوقهم المغتصبة، وهم قادرون فعلاً على ذلك، فهم الأعرف بطبيعة فلسطين، والأكثر معرفة بطبيعة العدو، ومصادر قوته وضعفه، والأكثر تأثيراً في معادلة الصراع الوجودي، وهم أصحاب الحقوق المغتصبة، والمشردون منذ عقود من الزمن في مشارق الأرض ومغاربها.
إن الكيان الصهيوني أُقيم كمشروع استعماري إستيطاني إحلالي وعنصري، وحامية عسكرية على الطريق إلى الهند والصين في قلب منطقة الشرق الأدنى، ولكن في ظل التغيرات العالمية، فقد هذا المشروع وظيفته الأساسية منذ نهاية القرن العشرين، إن اعتماد هذا الكيان العنصري على القوة الغاشمة، و”الجيش الذي لا يقهر” بات يقهر، فقد سبق أن تم قهره عام 1968 في معركه الكرامة في الأردن، وخلال حرب تشرين عام 1973، وقُهر على يد المقاومة الوطنية والإسلامية اللبنانية عام 2006، وبات هذا المشروع الصهيوني مُحاصراً من الجنوب والشمال ومن داخله، وطورت المقاومة الفلسطينية إمكاناتها وقدراتها، كما أصبح العامل الديمغرافي الفلسطيني (وهو بمثابه قنبلة موقوتة) يتفوق على أعداد العدو.
بالإضافة لما يعانيه هذا الكيان من انقسامات داخلية بين جماعاته المختلفة الأصل واللون، إضافة إلى الهجرة المعاكسة، ووعي الرأي العام العالمي لأكاذيب هذا الكيان اللقيط وعنصريته، ودور الإعلام البديل في فضح جرائمه ضد الإنسان.
أمام هذا الواقع فإن على أصحاب الحق والأرض والوطن أولاً، أن يجعلوا من حياة مغتصبي أرضهم وسارقي حقوقهم، ومن أرض فلسطين بيئة طاردة اجتماعياً واقتصادياً وأمنياً، لهؤلاء الدخلاء المغتصبين، كما على كل قوى التحرر في العالم أن تمد يد العون المادي والمعنوي للشعب الفلسطيني ومقاومته، لأن تحرير فلسطين هو خدمة لشعوب العالم، ومسمار في نعش الاتفاقيات الدولية الظالمة، التي جزأت بلادنا في اتفاقية سايكس – بيكو، وشلّت دورة حياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحضارية.
وكان أنطون سعاده قد نبه بريطانيا إلى خطورة وعدها المشؤوم، وتنبأ منذ زمن طويل أن المسألة الفلسطينية ستطال كل العالم، إذا لم يُعاد الحق إلى أصحابه، ففي رسالته إلى لويدجورج في 18 ايار 1931 يقول: “الحقيقة هي كما قلتم فان أموراً عظيمة جداً ستترتب على هذه المحاولة الأثيمة التي لم يعرف التاريخ محاولة أخرى تضاهيها في الأثم وإني أطمئنكم بأن نتائجها لن تقتصر على فلسطين بل ستتناول العالم أجمع وأن عظتها البالغة لن تكون لبني “اسرائيل” فقط، بل لجميع بني الانسان، ومن يعش ير.
وشعبنا في كل سورية الطبيعية يردد مع أنطون سعاده، أن فلسطين هي جزء حيوي من وطن كامل غير قابل للتجزئة، ونوجه نداءً إلى كل المقاومات الجزئية والمشاريع الوطنية الجزئية، التي لن تؤمن الانتصار التام، وتأمين تحرير الأرض في سورية الجنوبية، فإن ذلك لن يتم إلا بوحدة المقاومة ووحدة القيادة ووحدة الشعب في هذه المنطقة، هذا ما يجب أن تدركه كل المقاومات الجزئية أو الكيانية أو الإسلامية الاتجاه.
د. عزمي منصور