لا شك في أن العام 2022 هو عام التخبّط السياسي والاقتصادي بامتياز، تعمّقت فيه الازمة الاقتصادية على مختلف الأصعدة لتتسارع فيه وتيرة الانهيار وتنزلق معه معظم المؤشرات الاقتصادية باتجاه القعر. هو عام الإنكار والتراخي المتعمّد من قبل أصحاب الشأن، إنكار الإصلاحات الهيكلية المطلوبة لفرملة الانزلاق وتفكك المؤسسات التي دخلت في مرحلة من الموت السريري لفترات طويلة من العام 2022. هو عام القرارات العشوائية وغير المدروسة لناحية رفع الضرائب وعلى رأسها الدولار الجمركي، فاقمت من نسب التضخم التي قضمت ما تبقّى من قدرة شرائية لشريحة واسعة من اللبنانيين وفاقمت معها نسب الفقر. هو عام رفع الدعم الكامل أو التدريجي عبر منصة صيرفة، من قبل مصرف لبنان عن معظم السلع الأساسية من مواد غذائية ومحروقات وأدوية وقمح وصولاً إلى تسعيرة الاتصالات وختامها مع تسعيرة الكهرباء الجديدة مع نهاية العام 2022.
في التفاصيل، طغى مشهد التدهور الكبير في سعر صرف الدولار على العام 2022، وذلك من 27 ألف ليرة في نهاية العام 2021 إلى ما يقارب 48 ألف ليرة قبل أيام قليلة من انتهاء العام 2022، نجم في الدرجة الأولى عن الطلب الكبير على الدولار وهو ما تجلّى من خلال حجم الاستيراد اللافت والذي بلغ 18 مليار دولار في الأشهر الأحد عشر الأولى من العام، من 13.4 مليار دولار في العام 2021. أضف إلى ذلك، عمليات شراء الدولار أكان من قبل بعض المضاربين أو تجار العملة أو المهربين، أو عمليات شراء الدولار من قبل المصرف المركزي الذي عوّدنا منذ ما يقارب العامين على خطوات استباقية، تلّخصت بعمليات شراء منظّمة للدولار الأمريكي من السوق السوداء، ينجم عنها ارتفاعات صاروخية في سعر الصرف، ليعاود المركزي ضخّها من جديد في محاولة منه للجم سعر الصرف وضخ أحجام كبيرة من الليرات نجم عنه ارتفاعاً كبيراً في حجم النقد المتداول بحدود 30 ألف مليار ليرة خلال العام لتمويل هذه العملية. وهو ما ساهم بشكل مباشر في استنزاف احتياطيات مصرف لبنان الأجنبية بقيمة 3.2 مليار دولار منذ بداية العام وحتى منتصف أيلول قبل أن يعززها مجدداً بحوالي 700 مليون دولار خلال الفصل الأخير من العام.
ولكن للأسف فإن هذه السياسة عادةً ما تساهم في خفض سعر الصرف إلى مستويات أعلى من المستويات التي سجلها في مراحلة سابقة قبل أن يعاود ارتفاعه إلى مستويات قياسية جديدة بعد فترة زمنية من التأقلم النفسي مع هذه المستويات الجديدة. ولكن لاشك في أن هذا التدخّل من قبل المركزي على ثلاث مراحل خلال العام 2022 (كانون الثاني وأيار وكانون الأول) ساهم نسبياً في لجم تفلّت سعر الصرف الذي كان من الممكن أن يصل إلى مستويات أكثر ارتفاعاً في ظلّ غياب الحلول الجذرية من قبل الحكومة. وبالتالي ينبغي التفريق هنا بين مسار سعر الصرف على “مدى متوسط” وبين تقلبية سعر الصرف على “مدى قصير”، فالمسار يحكمه تقلبات دورية قصير الأمد مثل العوامل السياسية، تشكيل حكومة، فراغ حكومي أو رئاسي، تعاميم واجراءات من هنا وهناك، ولكنها لا تستطيع أن تغيّر في مساره على المدى المتوسط والطويل، ما يعني بأن أي خطوات استباقية سرعان ما ستتبدّد مفاعيلها إذا لم تترافق مع خطوات إصلاحية جريئة وجدّية تصحّح الاختلالات البنيوية الاقتصادية المتحكّمة هي وحدها في مسار سعر الصرف واستدامته.
ثانياً، كان للقرارات العشوائية التي أقرّتها الدولة اللبنانية، لناحية رفع الرسوم والضرائب وعلى رأسها الدولار الجمركي مروراً باحتساب تعرفة خدمات واشتراكات الاتصالات الخلوية على أساس سعر منصة صيرفة، وقعاً كبيراً على رفع أسعار السلع والخدمات الأساسية وبالتالي المزيد من إفقار الناس في ظلّ حرمانهم من أي شبكة أمان اجتماعي ومن دون الاهتمام بتأمين الاحتياجات الرئيسية اللازمة لأبسط مقومات المعيشة، لاسيما مع رفع الدعم من قبل المركزي الذي انطلق قطاره رسمياً في العام 2022 ليشمل معظم السلع المدعومة. ما ساهم بالتالي في ارتفاع مؤشر أسعار المستهلكين بحدود 108% منذ بداية العام 2021 وحتى نهاية شهر تشرين الثاني، ليسجل بذلك لبنان إحدى أعلى نسب تضخم مفرط في العالم وصلت إلى حدود 1,600% (أي 17 ضعف) خلال السنوات الثلاث المنصرمة.
ثالثاً، شكل إقرار الموازنة العامة في شهر تشرين الثاني من العام 2022، تطوراً جيداً ومطلباً اقتصادياً، بدلاً من الإنفاق على قاعدة الاثني عشرية التي أوجدت فوضى مالية ملحوظة منذ العام 2006، حين كان يُدار البلد بدون موازنة عامة. ولكنها للأسف موازنة بعيدة من حيث الشكل والمضمون، عن موازنة بلد على شفير الإفلاس، وكأن من صاغ المشروع تناسى تماماً حدّة الأزمة الاقتصادية وتداعياتها على الواقع المعيشي المؤلم، لا بل تضمّنت الموازنة عدد كبير من البنود الضريبية، كما وأنها افتقرت بشكل تامّ إلى الإصلاحات الهيكلية التي تهدف إلى ترسيخ مناعة الاقتصاد الوطني وقطاعاته المالية على المدى المتوسط والطويل، والتي لا طالما طولبت الحكومات المتعاقبة بضرورة القيام بالإصلاحات البنيوية المرجوة من أجل خفض نسب العجز والمديونية العامة إلى مستويات قابلة للاستمرار خصوصاً في ظل بروز مسائل إختلالات المالية العامة على رأس قائمة أولويات مجتمع الأعمال والاستثمار حول العالم.
رابعاً، شهد العام مماطلة متعمّدة في إقرار القوانين والاصلاحات الضرورية من قبل السلطت المعنية بعد مرور 3 سنوات على اندلاع أسوأ أزمة اقتصادية في تاربخ لبنان الحديث، وهو ما تجلّى تحديداً من خلال المماطلة في إقرار مشروع قانون الكابيتال كونترول، نتيجة التجاذبات السياسية الداخلية المستمرة، ما أفقده اليوم فعلياً الدور الأساسي الذي كان يجب أن يلعبه مباشرةً بعد نهاية العام 2019، ألا وهو ضبط حركة الأموال من لبنان إلى الخارج للحفاظ على حقوق المودعين، بحيث كان يجب أن يقرّ المشروع إجراءات وتدابير استثنائية ومرحلية مباشرةً بعد 17 تشرين 2019، تهدف إلى وضع ضوابط مؤقّتة تشكّل في الوقت نفسه حمايةً لحقوق المودعين وتعزيزاً لقدرات المصارف على القيام بواجباتها، مع حرية التصرف بالتحويلات الجديدة الواردة من الخارج من دون أية قيود، ما يعيد الثقة تدريجياً في القطاع المالي اللبناني. إلا أنه اليوم ومع تبقّي حوالي 10 مليارات دولار لدى المصرف المركزي، فقد بات إقرار مشروع الكابيتال الكونترول اليوم حاجة على ما يبدو لضمان معاملة عادلة لجميع الزبائن والحدّ من المخاطر القانونية تجاه القطاع المصرفي أكثر منه للحفاظ على حقوق المودعين الذين تبخّرت ودائهم بالعملات الأجنبية بما يوازي 90%. مع الإشارة إلى أن فقدان الثقة في القطاع المصرفي يعني فقدان الثقة في النظام المالي ككلّ وبالتالي عزل لبنان عن النظام المالي العالمي، ناهيك عن أن سلامة القطاع المصرفي لها تأثير ملحوظ على المخاطر السيادية وبالتالي على أي تصنيف سيادي محتمل للبنان. أضف إلى ذلك، فقد توصّل لبنان إلى اتفاق على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي في نيسان، سرعان ما تأرجح وطغت عليه أجواء سلبية بعدما نفذت الحكومة اللبنانية القليل من مطالب صندوق النقد الدولي من الاتفاقية، والتي تضم ركائز أساسية يجب تنفيذها قبل وضع اللمسات الأخيرة على برنامج الإنقاذ، تشمل إعادة هيكلة القطاع المالي والدين العام الخارجي، تنفيذ الإصلاحات المالية ووضع تدابير لمكافحة الفساد وغسيل الأموال.
ختاماً، لاشكّ في أن إتمام عملية ترسيم الحدود في تشرين الأول حمل في طيّاته نفحة أمل في ظلّ المآسي الاقتصادية والاجتماعية التي يشهدها لبنان، ولكن شرط أن يتطلّب عدد من الإجراءات المتمثّلة بدايةً بانتخاب رئيس جمهورية، ما يعني تحسّناً ملموساً على صعيد المناخ الداخلي العام، يليه بتشكيل حكومة بشكل سريع تفعّل عجلة الإصلاحات الهيكلية الضرورية الكفيلة بتعزيز عامل الثقة بشكل عام، مع ما يمثّل ذلك من حجر أساس لاستعادة إنتاجية المؤسسات اللبنانية من جهة، كما ويتطلّب انحساراً تدريجياً للعوامل الإقليمية المعاكسة ذات التداعيات السلبية على الساحة المحلية من جهة أخرى، كي يتحقّق الانفراج الاقتصادي المنشود، الذي يحتاج باختصار إلى توافر عدد من العناصر المترابطة لضمان نجاحه، تعزيز عامل الثقة من خلال حكومة ذات مصداقية وقادرة على تطبيق ما يلزم من إصلاحات، عامل الوقت لتُترجم هذه الاصلاحات بشكل فعلي ونبدأ بقطف ثمارها، والأهم من كل ذلك صدق النوايا بين مختلف الأفرقاء السياسيين لضمان المناخ المؤاتي من الاستقرار السياسي والأمني.
د. فادي قانصوه