بعد أن درس سعاده معظم الفلسفات ووجد أنها جزئية أسس نظرة جديدة لإنقاذ العالم من تخبطه وضلاله وهذه النظرة التي يحتاج اليها العالم هي فلسفة التفاعل الموحد الجامع للقوى الإنسانية، وهي تشكل منهجه في التفكير والتحليل.
التفاعل عند سعاده لا يكون تفاعلاً حقيقياً إذا لم يكن تفاعلاً توحيدياً في معركة الصراع من أجل البقاء والارتقاء. انه تفاعل طبيعي تعاوني موحد ضمن الأمة التي حققت وحدة مجتمعها بعد زوال جميع أشكال التجزئة والاستغلال. وهو أيضاَ تفاعل طبيعي تعاوني موحد بين جميع الأمم على أساس احترام متبادل لمبدأي الحرية والسيادة القوميتين بعد زوال الإمبريالية والتخلف وكل نزعة استعمارية استغلالية توسعية.
وبالتفاعل الطبيعي التعاوني الموحد على الصعيدين القومي والعالمي تزال عوامل التصادم في المجتمع التي تعرقل بعضها وتضيع جزءأً غير يسير من فاعلية وحدته الحيوية. فتـتجه قوى الإنسان إلى التفاعل مع الطبيعة من أجل الانتصار عليها وفرض سيطرته وتحقيق سعادته. وعندما يكون التفاعل التعاوني غير ممكن بسبب التناقضات القومية والاجتماعية يتبنى سعاده مقولة الصراع التي تمليها ضرورات التحرر القومي الاجتماعي من الاستعمار وأدواته وأشكاله المختلفة ومن القوى الاجتماعية الداخلية المتحالفة ضمناً، او علناً مع قوى الاستعمار المضادة لمصلحة الشعب والدولة القومية: انه صراع قومي من أجل تحرر الوطن من جميع أشكال الإمبريالية والاستعمار والسيطرة ومن أجل وحدة الوطن وإلغاء جميع أشكال التجزئة. وهو صراع اجتماعي من أجل تحرير المواطن من الاستغلال والظلم والقهر ومن أجل وحدة الشعب بعد إزالة جميع أشكال التجزئة والتفرقة والانقسام.
انه يرى أن الصراع الفعلي في التاريخ يجري بين الجماعات، وان هذا العصر يتميز بكونه عصر التنازع بين الأمم المتقدمة على البقاء أو على السيادة والتوسع، وبأنه عصر نضال الأمم الناهضة من أجل التحرر والبناء والازدهار بالإضافة إلى كونه صراع اجتماعي تقوم به الفئات الواعية المستغلة والمحرومة والمضطهدة من أجل إلغاء جميع أشكال الاستغلال والقهر،
ان هذا المفهوم للتفاعل يشكل نظرة سعاده إلى تطور الاجتماع الإنساني، ونهجه في تحليل جميع الظاهرات والبنى، سنحصرها على ثلاثة مستويات:
التفاعل بين الأساس المادي والبناء الروحي (المدرحية)، التفاعل بين الإنسان والمجتمع (الإنسان – المجتمع)، والتفاعل بين الجماعة والبيئـة (الأمة).
في هذه المقالة سوف نتوقف عند المدرحية على ان ندرس المستويات الأخرى في مقالات لاحقة.
المدرحية
أدرك سعاده ان بنية الوجود الاجتماعي الإنساني مركبة من عاملين يسميهما سعاده الأساس المادي والبناء النفسي وقد عبر عنها بكلمة واحدة المدرحية.
الأساس المادي هو مجموعة التصرفات والعلاقات الاقتصادية التي يسد بها الإنسان حاجاته المادية مباشرة او مداورة، بالعمل والواسطة، والتي تشكل الروابط الاجتماعية الأولى. يقول سعاده 🙁 الرابطة الاقتصادية هي الرابطة الاجتماعية الأولى في حياة الإنسان او الأساس المادي الذي يقيم الإنسان عليه عمرانه فلا تستطيع ان تتصور مجتمع يقوم على غير أساس التعاون الاقتصادي لسد الحاجة … الاقتصاد هو نقطة الابتداء في بحث حالات الاجتماع حتى أننا نرى الحالة الاقتصادية تؤثر على الحالة البيولوجية احياناً. والتطور الاجتماعي هو دائما على نسبة التطور الاقتصادي … ولسنا نقصد بالضرورة الاقتصادية ان الاقتصاد هو أساس او مرجع جميع المظاهر الاجتماعية، فلا نزعم ان الاقتصاد هو الدافع إلى الحب والزواج والعناية بالبنين او انه الباعث على محبة الموسيقى. ولكننا نزعم انه لا يكاد يعقد الزواج حتى يدخل العامل الاقتصادي أساساً لكيانه وبقائه، وان محبة الموسيقى من حيث هي مظهر اجتماعي، تبقى عقيمة او أولية بدون الأساس الاقتصادي، ولا يمكن الفصل عملياً بين الحياة ومقوماتها … إذا كانت الرابطة الاقتصادية أساس الرابطة الاجتماعية البشريـة، فالعمل ونظامه التعاوني مصدر نظام الاجتماع وأساس بناء المجتمع.)
ان سعاده لا ينظر إلى الاقتصاد كباعث للحياة، بل وهو أحد اوجه مقومات الحياة وليس كلها. ولهذا فهو لا يقول بالتحتيم الاقتصادي المطلق للبناء الاجتماعي، بل الترابط الحياتي والتناسب بين التطور الاجتماعي والتطور الاقتصادي. فالحالة الاقتصادية على أهميتها الأساسية هي جزء من الحالة الاجتماعية العامة تؤثر فيها وتتأثر بها من ضمن العلاقة التفاعلية. والاقتصاد في نظر سعاده ليس مقتصراً على وسائل الإنتاج بل يتضمن الموارد الطبيعية في البيئة لذلك كل مجتمع يعطي لنظامه الاقتصادي شكلاً خاصاً محدداً بشخصيته ومؤهلاته ومشكلاته وأهدافه، في نطاق تفاعله مع البيئة الطبيعية والاجتماعية التي تحيط به.
البناء النفسي هو مجموعة التصرفات والعلاقات التي تتعين بها صورة الاجتماع وحيويته الذاتية ومستوياته في الظهور وتتمثل في ردة فعل الجماعة تجاه الطبيعة، وفي كيفية تنظيم التعاون الاقتصادي، وفي نظام الأخلاق والشرائع، وفي الاعتقادات والعلوم والفلسفات والفنون، ولكل جماعة او مجتمع بناء نفسي خاص به، يعبر عن حاجاته ونزعاته وتطلعاته، عن خبراته المتراكمة، من استعداداته وإمكانياته وتجاربه مع التطور التاريخي العام. وغالباً ما يختصر سعاده هذا كله بعبارة الحياة النفسية او الحياة العقلية: ويتوسع سعاده خاصة في تحليل تطور الدولة التي هي من أهم مظاهر البناء النفسي في الاجتماع البشري. وسعادة يعتبرها مظهراً ممتازاً للحياة العقلية على مستوى الجماعة او المجتمع، ليس في ذاتها، بل بما تنطوي عليه من حقوق وواجبات.
سعاده ضد الدولة عندما تكون “إرادة خصوصية تفرض نفسها على المجموع الذي تشمله” وهو مع الدولة عندما تصبح “النظام والهيئة الممثلين لإرادة الأمة” وعلى كل حال سعاده يعتبر “الدولة وحكومتها مظهرين اجتماعيين نهائيين ” ولا ينفي إمكانية إلغائهما في المستقبل عندما تتوفر الشروط اللازمة لأنه لا ينظر إليهما كمظاهر مطلقة قائمة في ذاتها “بل تقومان على ما هو أعمق منهما، على حياة المتحد وإرادته.”
هذا هو مفهوم سعاده للأساس المادي والبناء النفسي وإلى هذه النظرة دعا العالم إلى اعتمادها ” أننا ندعو الأمم إلى ترك عقيدة تفسير التطور الإنساني بالمبدأ الروحي وحده وعقيدة تفسيره من الجهة الأخرى بالمبدأ المادي وحده وإلى التسليم معنا بان أساس الارتقاء الإنساني هو أساس مدرحي وان الإنسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد صرح مستقبلها عليه”. واعتبر هذه النظرة “القاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وارتقاء الثقافة” والقادرة على “تحويل الصراع المميت إلى تفاعل متجانس يحيي ويعمر ويرفع الثقافة ويسير بالحياة نحو ارفع مستوى.”
ان فلسفة سعاده ليست توفيقية ولا ثنائية ولا وسطية، بل أنها فلسفة أحادية الجانب وحدوية الأبعاد وهي تعبير عن الوجود كما هو وحدة التلاحم المتين بين العقل والكائن ودليل عملي على وحدة الفكر والواقع. المدرحية هي وحدانية وحدوية المادة – الروح في تفاعل واحد متماسك متجانس.
المدرحية نابعة من إدراكه لضرورة احترام بنية الوجود الاجتماعي المركبة من أساس مادي وبناء نفسي حتى تتم عملية تطور الحياة الاجتماعية الإنسانية بصورة سليمة كاملة. وفي واقع الأمر، الذين يقولون بتطوير الاجتماع الإنساني على أساس الفلسفة المادية لا يستغنون عن الروح والفاعلية الروحية المتمثلة في الوعي والعقيدة والظاهرات النفسية، والذين يقولون بتطوير الاجتماع الإنساني على أساس الفلسفة الروحية لا يستغنون عن المادة والفاعلية المادية المتمثلة في وسائل الإنتاج والتكنولوجيا وسائر الظاهرات المادية في الاجتماع الإنساني. فما يطالب به سعادة هو الاعتراف بهذا الواقع وترك النظرة الأحادية إلى الاجتماع الإنساني، وبالتالي الاهتمام بتنمية قوى الإنسان المادية وقواه الروحية في إطار الشكل الاجتماعي الشامل، الذي يأخذ في هذا العصر الشكل القومي.
إن المدرحية لا تشمل الأسس الميتافيزيقية والأنطولوجية للكائن الإنساني. لأن سعادة لم يطرحها كحل لتجاوز المشكلات التي تثيرها ثنائية الجوهر المادي والجوهر الروحي ولم يطرحها كجواب على الفلسفة الأحادية التي لا ترى في الوجود بأسره إلاّ المادة وأشكالها أو لا ترى فيه إلاّ الروح وأشكالها. وذلك لأنه ليس فيلسوفاً ميتافيزيقياً.
إن المعنى الحقيقي للمدرحية محصور في مستوى اجتماعية الإنسان وأشكالها. وتعيين لفكرة التفاعل في موضوع علاقة الروح والمادة بالنسبة إلى الحياة الاجتماعية.