أيسكننا التاريخ؟ أم نسكنه؟ الفرق شاسع، أن تعود إلى الماضي أو تستحضره دليلاً وحافزاً ومحرضاً. ان تقبع في الماضي وتستريح، أم تجعله درساً وأمثولة ونبراسا تستكشف من خلاله الحاضر وتبني المستقبل.
عن أي تاريخ نتكلم، وهل التاريخ لحظة زمنية محددة؟ مفصولة عما قبل، ومقطوعة عما بعد؟ هل التاريخ مصنوع بالعقل البشري؟ أم انه صانع مؤثر في الطبيعة البشرية؟ انها اسئلة برسم التاريخ نفسه. هل التاريخ يعيد نفسه؟ أم أنه لا يكرر ذاته إنما روحه وزخمه وفعاليته؟
ربما الاجابة على هذه الاسئلة تتطلب بحثاً معمقاً في فلسفة التاريخ تعجز عنها هذه العجالة، وهذه المقالة الصغيرة التي تطمح إلى الإطلال على الأول من آذار 1904 مولد معلمنا وباني عقيدتنا ومؤسس نهضتنا وواضع أسس حزبنا الزعيم أنطون سعادة.
لقد اطلق القوميون على هذا اليوم جملة من الاوصاف ذات دلالات رمزية مهمة، وما زلنا نشهد المزيد منها كل عام، إلا أنها أحادية في إشاراتها إلى جانب واحد من الجوانب المتعددة لشخصية الزعيم الفريدة، فكراً وعملاً وقدوة.
فالأول من آذار بالنسبة للقوميين: ولادة النور، وانبلاج الفجر، واطلالة الربيع، وتفتح الطبيعة، وانبثاق الفكر، ودورة تجدد الحياة، وبراعم الامل، وأول النبض، وغيرها من الاوصاف الرائعة والمميزة.
لا بد، هنا، من استعادة السؤال الأول، هل الأول من آذار مفصول عن ما قبله ومقطوع عن ما بعده؟ بكلام آخر هل كان الأول من آذار عيدا لنا لو لم يترافق مع وضع سعادة لعقيدته وارسائه التنظيم الحزبي لتحقيق العقيدة؟ هل كان الأول من آذار مميزا لو لم يترافق مع نضال سعادة لخير مجتمعه ووحدة شعبه وسيادة امته؟ هل كان الأول من آذار ليكون لو لم يقدم سعادة دمائه الزكية فداء لنا عل مذبح القضية؟
انه التاريخ منذ الولادة حتى الشهادة لذا اطلقنا على الأول من آذار ولادة تاريخ. تاريخ سعادة، تاريخ الأمة، تاريخ النهضة المستمرة حتى الانتصار. فالأول من آذار 1904 لم يكن اكثر من الورقة الاولى من كتاب الزمن النهضوي، خاتمته مفتوحة على مستقبل حاضره نحن.
واستطرادا، هل فكر الزعيم ولد من عدم، أم انه موصول بما قبله؟ لاشك أن سعادة استقى من سيل التراث السوري على مستوياته كافة ، وعجنه بفكره، وقدمه لنا كلا متكاملا. لقد نهل مما قدمه زينون وابو العلاء المعري والكواكبي وغيرهم في الفلسفة والأدب. واعلى من دور حمورابي وزنوبيا في الادارة والتنظيم والحكم والسياسة، واستوحى من هنيبعل واسرحدون ونبوخذنصر ابتكاراتهم في العلم العسكري، وناقش النظريات الحديثة في الاجتماع والاقتصاد والجيوبولتيك بما يتلائم مع خصوصية مجتمعنا وامكانياته وبالتالي وضع نظرة جديدة إلى الفلسفة والفن رابطاً إياها بالمثل العليا، الحق والحقيقة والخير والجمال. ولعل كتاب الصراع الفكري في الادب السوري المثل والمثال الذي وجه من خلاله الأدباء السوريين إلى الكشف عن الكنوز الأدبية السورية في الاساطير مما خلق ثورة أدبية فعلياً ركيزتاها التجديد والإبداع، فكان الشعراء التموزيون طلائعها.
استشهد سعادة قبل ان يتسنى له الافراج عن كل مكنوناته الفكرية والعملية ومنها على سبيل المثال لا الحصر كتاب «نشوء الأمة السورية» الذي صادر المستعمر المخطوطة الوحيدة أثناء اعتقاله.
لقد وضع سعادة قواعد ومرتكزات ومنطلقات الفكر القومي الاجتماعي، وهو دعوة واضحة وصريحة إلى التجديد والتطوير والتحديث لاستمرار السيل الحضاري السوري فاعلاً في مجتمعنا وعلى الامتداد الإنساني.
هذا بعض من تاريخ رجل، من تاريخ زعيم، من تاريخ نهضة، لنعمل جاهدين بنهج سعادة لاستعادة امة لا ترضى القبر مكانا لها تحت الشمس.