غسان جديد، الأسطورة المشرِّفة

«قائد ممتاز علماً وعملاً، ثقافته العامة والعسكرية متينة جداً، ذكيّ وسريع الخاطر قوي الإرادة جلود يعمل من دون كلل ويتفانى في مصلحة جيشه وبلاده، غيور في وطنيته، ولذلك فهو موضع احترام مرؤوسيه».

هذا ما جاء في مقدمة سجله العسكري الصادر عن قيادة المنطقة الوسطى بتاريخ 11 تشرين الثاني 1954. أنه الضابط في الجيش الشامي برتبة مقدم، وعميد الدفاع في الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي حاول أن يوفق بين الواجبين العسكري والحزبي، بل رأى فيهما واجباً واحداً. وعمل بصدق وتفانٍ للقيام بهذا الواجب، ولهذا كان الشهيد غسان جديد مالئ دنيا الحزب، وشاغل خصومه، عرف بوسامته، واعتداده، وقوة شخصيته، وعرف برأيه الواضح، وحجته المقنعة المدعمة بثقافة عالية وخبرة غنية.

يصادف اليوم ذكرى استشهاده، وفاءً لتضحياته وأعماله البطولية أحاول أن استذكر أهم هذه المحطات المضيئة من تاريخ حياته.

الرفيق غسان جديد مواليد قرية دوير بعبدة ـ جبلة ـ اللاذقية، في العام 1920.

انتمى إلى الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعي في العام 1937 وهو لا يزال طالباً في المعهد العلمانيّ بطرطوس.

انتسب إلى الكلّيّة الحربيّة في حمص، حيث تخرّج برتبة ملازم، ليبدأ حياته العسكريّة في جيش من جيوش الشرق الفرنسيّة.

أجرت قيادة الجيوش الخلفية أبان الحرب العالمية الثانية «مناورة الكومندس» إشترك فيها ضباط من الشام وفرنسا وبريطانيا وغيرها تفوق غسان جديد على أقرانه من كل هذه الجنسيات ومثل الجندية العريقة في بلاده أمام جنود وضباط الدول الأخرى. بعدها جاء تعيينه لأمرة الفوج المرابط في طرابلس ما بين 1941 و1943، وأجرى عدّة إتصالات مع عبد الحميد كرامي لإشعال نار الثورة ضدّ الفرنسيين، لم يرق نشاطه للمستعمرين، فنقلوه إلى بشمزين ـ الكورة.

في مطلع عام 1945، أُعلنت الثورة في الشّام، فسار على رأس مفرزة من جنوده إلى حمص متسلّلًا معه كافة الأسلحة الموجودة في المخفر. وانتدب لمهاجمة ثكنة تلكلخ وكانت في أيدي الفرنسيين، فقاد مفرزة من المجاهدين انضمت إلى قوى آل الدندشي، وبعد حصار أيام عدة سمحت القوى المجاهدة للحامية الفرنسية بالانسحاب، ورفع غسان بيدَيه العلم السوريّ فوق ساري ثكنة تلكلخ، وكانت هذه الثكنة من أوائل المواقع الحربية التى استردتها القوى الوطنية. هتفت يومها الألوف لغسان جديد، لم يسكره النصر الذي حُقق، بل اندفع مع عدد من الضباط المغاوير إلى طرابلس، وتمكن من أن يشكل الفوج بأكمله ويذهب على رأسه إلى حماه، حيث استقبلتهم الحشود يومها بالهتاف.

وفي نهاية عام 1947 كان الجو قد تلبد بفصول مأساة فلسطين الدامية، وانهمر رصاصاً وناراً في تلك الأرض التي قرر اليهود اغتصابها، تعاونهم قوات دولية كبرى، وقررت القيادة إرسال المجاهدين إلى ميدان القتال في فلسطين، كان الملازم غسان جديد يتولى مهمة التدريب في الكلية العسكرية، فطلب إعفاءه لينضم إلى صفوف المقاتلين في جيش الإنقاذ على خط النار، عرفه العسكريون قائداً جريئاً في إتخاذ القرار، وصارماً في تنفيذه، مقداماً لا يتهيب الصعاب، ومستبسلاً في الدفاع عن الوطن. أحبوه، ورأوه الأكفأ والأشجع فتطوعوا معه في جيش الإنقاذ (ترأسه القائد فوزي القاوقجي) وخاضوا بإمرته المعارك ضد العدو اليهودي.

شكّل سريّة زحف إلى فلسطين، انتدب القائد غسان جديد للقيام بعمل عسكري بطولي سماه بعض الذين عرفوا بخطته أنه عمل جنوني، كانت الخطة -والبريطانيون لا يزالون في فلسطين- أن تغزو قوة من المجاهدين أحد المعسكرات البريطانية في حيفا عن طريق يافا، تنكر غسان مع مئة وعشرين مجاهداً بألبسة الجنود الأردنيين، واخترقوا الطريق من جنين إلى حيفا، والمعسكرات البريطانية والمستعمرات اليهودية على جانبي الطريق،  وساروا في قلب حيفا واجتازوها إلى ما تحت قرية «الطيرة» وقاموا بالمهمة العسكرية فسقط المعسكر المليء بالذخائر في أيدي القوة التي لم تزد كثيراً عن مئة فدائي بقيادة غسان جديد .

وخاض بعدها معركة النبي يعقوب المستعمرة اليهودية المنيعة الحصينة بين رام الله والقدس، تقفل الطريق العام وتمنع المجاهدين من الوصول إلى نجدة القدس، اندفع القائد غسان على رأس مجموعة صغيرة من الفدائيين إلى المستعمرة التى أعجزت الجيوش، والتفّ حولها بمناورة بارعة ونسفها بأروع عملية فدائية وأصبح من فيها بين قتيل وجريح وأسير.

 انتهت معارك 1948 بانتصار العصابات اليهودية وهزيمة جيش الإنقاذ وسائر جيوش العالم العربي، ولكن الهزيمة كانت سياسية لا عسكرية، بدليل أن معظم المعارك التي قادها غسان جديد وسائر القادة المتطوعين لم تكن لصالح اليهود. ولكن حكومات العالم العربي التي اشتركت في الحرب، كانت تحول النصر إلى هزيمة، سواء بحجب الذخيرة عن جيوشها أو بإصدار الأوامر بالانسحاب من المواقع الإستراتيجية والمتقدمة.

كان غسان برتبة «رئيس» أي «نقيب» أثناء الحرب، ونتيجة للدور الذي قام به في فلسطين، رفع إلى رتبة مقدم. ثم أصبح رئيساً للجنة الهدنة المشتركة وهو استمر في هذه المسؤولية أربع سنوات متتالية، وقائداً للفوج المتمركز على الحدود قبالة الحولة.

حاول اليهود تجفيف مياه الحولة، ولكن الجيش الشامي الرابط هناك بقيادة المقدم غسان، حال دون تنفيذ مشروعهم، عندئذ رفعت المسألة إلى مجلس الأمن، فانتدبت القيادة غسان جديد للقيام بوظيفة مستشار للوفد الشامي في مجلس الأمن حتى يتوفر للجانب السوري الحجج الميدانية التي تثبت اعتداءات العدو.

بعد تلك المرحلة تم تعيين المقدم غسان جديد معاون آمر اللواء الرابع ورئيس الكلية العسكرية لضباط الاحتياط في حمص.

وفي تموز العام 1954 حصلت مناورة في الجيش تحت اسم مناورة «الكسوة _ سعسع»، إشتركت فيها غالبية وحدات الجيش الشامي، واستمرت لمدة شهر، وتواجه فيها المقدم غسان جديد على التوالي مع العقيد عدنان المالكي ورئيس الأركان العميد شوكت شقير وخرج منها غسان بالمرتبة الأولى، وبعد انتهاء الجولة الأخيرة تحلق الضباط حول رئيس لجنة الحكم الإلماني الكولونيل كريبل الذي أذهله أداء غسان في كافة الجولات حيث قال لهم: « إذا كان في الجيش السوري أكثر من غسان جديد فمعنى ذلك أن هناك أكثر من رومل ».

 وهنا دخلت السياسة في التفاصيل حيث دبر له كمين مسلح وهو عائد من دمشق إلى حمص نجا منه بأعجوبة، وبعد ذلك أوصت لجنة من الجيش بتسريحه الذي صدر في الرابع من نيسان 1955 .

وبعد حادثة اغتيال العقيد عدنان المالكي في 22 نيسان 1955 واتهام الحزب فيها، انتقل الرفيق غسان إلى لبنان وكان يتولى مسؤولية عميد الدفاع حيث مارس عمله ونشاطه الحزبي يجول على كل الفروع ويزور كل المنفذيات ويجتمع إلى جميع المسؤولين، وكان دائم الترحيب بالموت من أجل القضية السورية القومية الاجتماعية، دائم الاستعداد للاستشهاد كأنه وإياه على موعد أو على ألفة حميمة، بل أنه كان يعلم بمحاولات المكتب الثاني الشامي الآثمة لاغتياله، حيث قبل أن ينتهي العام 1955 أرسل رئيس المكتب الثاني عبد الحميد السراج اثنين من ضباطه لخطف العميد غسان من بيروت ولكن باءت المحاولة بالفشل .

في 22 تشرين الثاني 1956 انكشف أمر التخطيط لانقلاب شارك فيه العديد من الرموز السياسية في الشام، وعقدت محاكمة لهم على مدرج جامعة دمشق في كانون الثاني من العام 1957 ونقلت على أثير إذاعة دمشق مباشرة، وكانت برئاسة العقيد عفيف البزري وذكر في المحكمة أن غسان جديد كان سيقود 300 من أعضاء الحزب القومي من بعلبك لإحتلال حمص، وعاد اسم غسان من جديد يظهر على مسار الأحداث المتلاحقة على الساحة السورية ويبدو أن هذا أزعج البعض في الإقليم والخارج فقرروا إغتياله.

استشهد في 19 شباط 1957، بينما كان يتّجه بسيارته إلى رأس بيروت عندما اخترقت ظهره رصاصات الغدر والخيانة.

لا تزال بيروت تذكر تشييع الشهيد المقدم غسان جديد، إذ مشت بجنازته الألوف المؤلفة التي شيعته إلى مثواه الأخير، فمشت خلف جثمانه من مستشفى الجامعة الأميركية في رأس بيروت إلى مقبرة الباشورة صفوفاً بديعة النظام على طول وعرض الشوارع تحميها سلسلة من الشبان متشابكي الأيدي.

وأخيراً نحن نؤمن إن شهداءنا يمثلون قمماً مضيئة من المناقبية القومية الإجتماعية، التي هي قبل كل شيء مناقب البذل والعطاء والتضحية الكبرى بكل شيء من أجل انتصار القضية القومية الإجتماعية المقدسة. وأن الكتابة عن الشهيد غسان جديد في مختلف المراحل التي استعرضت لا ينتهي بمقالة أو في كتاب عنه. فهو النموذج القدوة والقائد العسكري الأسطوري.

بيروت في : 19 _ 2 _ 2023 .

المراجع :

1 _ منشورات عمدة الإذاعة للعام 1958 من الصفحة 13 _ 20 . بتصرف .

2 _ كتاب جنوح الأشرعة مذكرات الرفيق جهاد جديد من الصفحة 258 _ 261 . بتصرف .

3 _ كتاب الماضي المجهول مذكرات الرفيق متى أسعد من الصفحة 107 _ 112 بتصرف .

لمتابعة منشورات مجلة انتماء : 👇👇👇

https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=212213314669576&id=100076427265499&mibextid=Nif5oz

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *