النظام المدني العلماني: الدولة والعلمنة – الجزء السابع – القسم الثالث

تمهيد

نحو مجتمع علمي متحضر.

 إذا كانت لائحة العقاقير، وحدها، لا تصنع طبيباً، ولا تشفي مريضاً، ولا تعطي الصحة والعافية لجسم عليل. وبمعنى آخر إذا كانت الندوات والمؤتمرات والتقارير والتوصيات، وحدها، لا تضع حداً لصدام الحضارات والثقافات ونشوب الحروب المدمرة وتهديد السلام العالمي، فما هو العمل المطلوب للاتجاه بالبشرية نحو «مجتمع علمي متحضر»(1) لا أثر فيه للصدامات والحروب وما يترتب عليها من نتائج مأساوية تطال البشرية بأكملها؟ وبالتالي، هل يصلح هذا المجتمع العلمي المتحضر ان يكون نموذجا لقيام «الحضارة المشتركة»(2) بين الشعوب، أو الوصول إلى تحقيق «حضارة شاملة» (3) تنتظم فيها البشرية جمعاء؟

إنّ المزاوجة بين العلم والتحضر، يفيد أن المجتمع العلمي المتحضر، هو، حتما، المجتمع الذي يأخذ بالعلم، وينشد، في آن معا، هدف التقدم والرقي، وعلى هذا الأساس نفهم معنى الحضارة على أنها مجموع ما تحققه جماعة أو أمة من مظاهر التقدم والرقي فوق المستوى الأدنى للثقافة، وعليه فالحضارة أكثر تقدماً وأعظم رقياً من مرحلة الثقافة، بل أن الثقافة جزء من الحضارة أو أنها جسر للعبور إليها. يقودنا هذا التعريف للحضارة إلى البحث والتبصر في دور النخبة، وأثر أوضاع المجتمع في الفعل الحضاري الداخلي والخارجي.

«ونحن إذا نظرنا في فعل الأفراد الحضاري، الصادر عن عقولهم وضمائرهم للاحظنا ان بعضهم أشد أهلية لهذا الفعل والابداع من سواهم، وأن تاريخ أي مجتمع من المجتمعات قد امتاز بفريق من المبدعين من أبنائه في شتى الحقول والمجالات: في بناء الدول، وتنظيم الاقتصاد، والاصلاح الاجتماعي، والكفاح من أجل الحرية، والبحث والاكتشاف، وتطبيق المعرفة، وفنون الأدب والتعبير، وفي غيرها من حقول الادراك. هؤلاء هم النخبة المبدعة والطليعة الصحيحة الرائدة»(1)

يستوقفنا في هذه الفقرة الخاصة بفعل الأفراد الحضاري تعبير «ضمائرهم» أي وجدانهم الوطني أو القومي، فالوجدان القومي هو أعظم ظاهرة اجتماعية في عصرنا، وهي الظاهرة التي يصطبغ بها هذا العصر، على هذه الدرجة العالية من التمدن. ولقد كان ظهور شخصية الفرد حادثا عظيماً في ارتقاء النفسية البشرية وتطور الاجتماع البشري.

أما ظهور شخصية الجماعة، فأعظم حوادث التطور البشري شأناً وأبعدها نتيجة وأكثرها دقة ولطافة وأشدها تعقدا، اذ أن هذه الشخصية مركب اجتماعي ـ اقتصادي ـ نفساني يتطلب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيته شعوره بشخصية جماعته، أمته. وأن يزيد على احساسه بحاجاته احساسه بحاجات مجتمعه. وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسية — ـ الاجتماعي. وأن يربط مصالحه بمصالح قومه. وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتم به ويرد خيره، كما يود الخير لنفسه(1).

إن «ظهور شخصية الجماعة»، كما ورد آنفا، كان المدخل لمفاهيم الهوية والانتماء والولاء للمجتمع، للجماعة، للوطن، للأمة للدولة، بدل مفاهيم الهوية والانتماء والولاء للدين أو الطائفة أو المذهب، أو العائلة أو العشيرة أو القبيلة.. مع الملاحظة على أهمية أثر أوضاع المجتمع في الفعل الحضاري للأفراد، فالفرد لا يحيا ولا يفعل الا في المجتمع، الذي عليه ان يطلق فعل الفرد ويصلحه لا أن يعطله ويفسده، وان يرقيه ويفتح قابليته العاقلة الخيرة.. وهذا هو المظهر العلمي للمجتمع المؤهل للمساهمة في حوار الحضارات والثقافات بين مختلف المجتمعات الأخرى.

إن المجتمع العلمي المتحضر هو المجتمع الذي فيه الدين لحياة المجتمع وتشريفه وليس العكس، كما أن المظاهر الثقافية من علوم وفنون وآداب.. ليست من أجل ذاتها (مثلا العلم من أجل العلم) بل من أجل المجتمع وخيره، ودوره الحضاري في التفاعل مع المجتمعات الأخرى وحضاراتها من أجل ترسيخ قيم انسانية متحضرة بفعل العقل الانتصار الأخير فيها لمبادئ الحق والخير والجمال.

العلمنة كمدخل جديد لقيام نظام مدني

بادئ ذي بدء، يجب أن نضع تعبير «النظام المدني » في اطار منهجية البحث في أصل هذا المصطلح ومرادفاته، حتى نتمكن من النظر في المكونات المعرفية لبناء «المجتمع المدني» أو «الدولة المدنية»، التي في جوهرها علمانية ـ مدنية.

انطلق جان جاك روسو (1712-1778)(1) في كتابه الشهير «في التعاقد الاجتماعي»، من قاعدة «النظام المدني»، فجاء في الفقرة الأولى، من هذا الكتاب:

«أريد أن أبحث فيما إذا كانت توجد في النظام المدني قاعدة للحكم، تكون قاعدة شرعية وثابتة معاً، قاعدة تأخذ البشر على نحو ما هم عليه، وتأخذ القوانين على النحو الذي يلزم لها أن تكون عليه»(2)

يعلق استاذ الفلسفة وعلم الاجتماع د. سعيد بنسعيد العلوي، على مصطلح «النظام المدني» عند روسو، بقوله: «من الواضح أن أول ما يعنيه القول بالبحث في» النظام المدني هو البحث خارج نقيض هذا النظام، أي خارج «النظام الكنسي»، حسب ما تفيده الدلالة اللغوية الأصلية لتعبير «المدني». وهو الارادة، متى نظرنا اليها في ضوء مجمل التغيرات، التي اشرنا اليها سابقا، فهي تكون إعلاناً صريحاً عن العزم الأكيد على القطع مع «النظام القديم» وتوقيعاً ايديولوجياً على عقد ميلاد المجتمع المدني(1)

ما يستوقفنا في تعليق بنسعيد على روسو، مفاد قوله ان البحث في النظام المدني هو اعلان صريح على القطع مع النظام القديم والتوقيع على عقد ميلاد المجتمع المدني.

مما تقدم، يتضح لنا أن التعبير «النظام المدني»، هو مرادف لمصطلح «المجتمع المدني»، ونضيف إليه مصطلح «الدولة المدنية». وسنعتمد في بحثنا على تعبير «المجتمع المدني» لأنه الأكثر استخداماً في الخطاب السياسي العربي. فما هو «المجتمع المدني»؟

توافق المشاركون في ندوة «المجتمع المدني في العالم العربي، ودوره في تحقيق الديمقراطية»(2) على تعريف «المجتمع المدني»، على أنه: المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض متعددة، منها: أغراض سياسية، كالمشاركة في صنع القرار على المستوى القومي، ومثال ذلك الأحزاب السياسية. ومنها أغراض نقابية كالدفاع عن المصالح الاقتصادية لأعضاء النقابة. ومنها أغراض مهنية كما هو الحال في النقابات للارتفاع بمستوى المهنة والدفاع عن مصالح أعضائها. ومنها أغراض ثقافية كما في اتحادات الكتاب والمثقفين، والجمعيات الثقافية التي تهدف إلى نشر الوعي وفقا لاتجاهات أعضاء كل جمعية. ومنها أغراض اجتماعية للاسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية.(1)

 يتبع.


(1) التسمية ( مجتمع علمي متحضر ) هي لقسطنطين زريق، في كتابه   «في معركة الحضارة» ص 406.

(2) التسمية «الحضارة المشتركة» هي لـ عادل فقيه، في كتابه  «حوار الشعوب والثقافات»ص 193

(3) التسمية «حضارة شاملة» هي لقسطنطين زريق، مرجع سابق، ص 71

(1) قسطنطين زريق: في معركة الحضارة، مرجع سابق، ص 345،347

(1) انطون سعاده: نشؤ الأمم، مرجع سابق، المقدمة.

(1)   روسو، كاتب فرنسي، له تأليف فلسفية واجتماعية. نادى بطيبة الانسان وبالعودة إلى الطبيعة، من مؤلفاته: «العقد الاجتماعي» «اميل »، و «اعترافات». كان لمبادئه تأثير في نشأة الثورة الفرنسية والرومنطقية. المنجد في اللغة والاعلام، مرجع سابق، ص 312.

(2) Jean Jacques Rousseau: Du contrat social ( Paris: Garnier; Flammarion,1981) p.39

(1) سعيد بنسعيد العلوي: المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية، مرجع سابق، ص 47.

(2) مرجع سابق

(1) – المجتمع المدني في الوطن العربي، مرجع سابق، ص 845.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *