. . . ففي عام 1965 صدرت وثيقة «التبرئة» الشهيرة لليهود من قتل المسيح. في إطار التحضيرات للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني تنظر في التعاليم الكاثوليكية حول اليهود. وروى أن البابا رونكالي فكّر بهذا الأمر منذ بداية الحوار. وبعد العطلة الصيفية كلّف البابا الكاردينال أغوستينو بيا بتشكيل اللجنة الفرعية، وقد مهد هذا الأمر الطريق أمام صدور الوثيقة المجمعية «في عصرنا». في الثامن من تشرين الأول أكتوبر من العام 1965 وتعليقا على اللقاء مع البروفيسور إسحق، كتب السكرتير الشخصي للبابا رونكالي أن اللقاء ترك أثرا عميقا لدى هذا الأخير، مشيرا إلى أن يوحنا الثالث والعشرين لم يفكر حتى تلك اللحظة بالتطرق إلى المسألة اليهودية ومعاداة السامية. من هذا المنطلق شكل اللقاء بين الرجلين نقطة تحول كبير، وكان بداية لـ «مسيرة من الصداقة» كما يصفها اليوم البابا فرنسيس، باركت العلاقات بين اليهود والكاثوليك منذ تلك اللحظة، وعلى مدى السنوات الستين الماضية. في ختام المقال الذي نشرته صحيفة أوسيرفاتوريه رومانو الفاتيكانية لمناسبة الذكرى السنوية الستين للقاء التاريخي بين البابا يوحنا الثالث والعشرين والبروفيسور اليهودي جول إسحق، كتب الحاخام أبراهام سكوركا: فيما نتذكر نقطة التحوّل في التاريخ والتي تمثلت في هذا اللقاء وفي الحوار بين الرجلين، نود أن نرفع الشكر لله، ونكرم ذكراهما عاملين على التعمق في هذا الحوار الذي أطلقاه لستة عقود خلت، ودفعه إلى الأمام.
في 28 أكتوبر 1965 أذاع البابا بولس السادس وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني بعنوان «في علاقات الكنيسة مع الديانات غير المسيحية» وتطرقت إلى اليهودية واعتبرت الأكثر إيجابية وانفتاحًا في تاريخ علاقات الكنيسة الكاثوليكية مع الديانة اليهودية الذين أشار إليهم المجمع الفاتيكاني الثاني بأنهم يتقاسمون مع المسيحيين «تراثًا مشتركًا حضاريًا وساميًا» ممثلاً بالعهد القديم، كما أقرّ ما نسب لهم من تحمل مسؤولية «دم المسيح» وذلك استنادًا إلى جملة تفاسير لاهوتية وتاريخية لنصوص الكتاب المقدس، فضلاً عن عدم الدمج بين اليهود بأسرهم ومجلس حكماء اليهود والفريسيون عمومًا الذين لعبوا الدور البارز في محاكمة يسوع وفق نصوص العهد الجديد، كما التقى البابا حاخام روما الأكبر وزار إسرائيل غير أنه رفض الاعتراف بها. وقصة هذه الوثيقة بدأت في عام 63 عندما انعقد المجمع المسكوني لبحث تقوية الوحدة المسيحية، وفي الدورة الثانية من المؤتمر قدم الكاردينال« بيا » وهو ألماني الجنسية، ورقة تعد الصورة التمهيدية لهذه الوثيقة، تضمنت الورقة تبرئة اليهود من دم المسيح، وتشير إلى أن الشعب اليهودي جزء من الأمل المسيحي، وإنه لا يجوز أن ننسب إلى يهود عصرنا ما أرتكب من أعمال أيام المسيح، وبرر الكاردينال كلامه بأن كثيرين من اليهود لم يكونوا يعرفون شيئا عما حدث، كما أن بعض قادة اليهود لم يوافقوا على ما فعله سائر الكهنة. ساهمت «نوسترا آيتات»، إضافة إلى وثائق مجمع الفاتيكان الثاني، في إرساء توجه جديد للكنيسة الكاثوليكية، طبع علاقة الكنيسة بالشعب اليهودي وباليهودية بأهمية بالغة مقارنة مع ساد سابقا من تحفظات من كلا الجانبين، لا سيما وأن تاريخ المسيحية قد شابه تمييز في مقابل اليهودية بلغ حدّ محاولة القلب الديني القسري لليهود. وعلى أساس هذه العلاقة الشائكة، ما كانت العلاقة سوية بين الطرفين، فقد بقي اليهود دائما في وضع الأقلية أمام أكثرية مسيحية متنفذة. ولكن ما انجر عن أوضاع المحرقة في أوروبا أثناء الحقبة النازية، دفع الكنيسة للتفكير من جديد في علاقتها بالشعب اليهودي. وحين تم عرض هذه الورقة على المؤتمر، ثار المطران الهندي «كوتنهو » وطالب بحذفها وإضافة فصول من الديانة الهندية والإسلامية، واتخذ نفس الموقف كرادلة الشرق وشباب الكاثوليك بالقدس، وأكدوا أن ذلك ليس حقا للجميع، وطالبوا بالالتزام بما جاء في سفر الخروج : «أنا الرب الهك، إله غيور، أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء » سفر الخروج 15:20 واستشهد القس إبراهيم سعيد رئيس طائفة الأقباط الإنجيليين، بنصوص الإنجيل التي تقرر أن اليهود طلبوا صلبه ثم أنهم قالوا : «دمه علينا وعلى أولادنا» ـ متى 27.
ولقد كان الفارق هذه المرة أن هذا الرأي بدلاً من أن يكون مدفونًا في وثيقة ذات نص مكثف حيث يمكن إغفاله أو تجاهله بسهولة، يطرحه رجل تُدرَس كل كلمة يتفوه بها كمؤشر إلى عقيدة كنسية.
وقال الحاخام ديفيد روزن مدير شؤون الأديان في اللجنة اليهودية الاميركية في نيويورك إن غالبية الكاثوليك لا يقرؤون وثائق الكنسية وأن دائرة قراء البابا ستكون أوسع بكثير. وكان كتاب بنديكتوس الأخير بعنوان المسيح الناصري من اكثر الكتب مبيعًا حين نُشر العام 2007. وسترد الفقرة المتعلقة بصلب المسيح في جزء متمم بعنوان المسيح الناصري: اسبوع مقدس: من دخول القدس إلى الانبعاث. وعدلت الوثيقة وصدرت في أكتوبر 1965 تحت مسمى «وثيقة تيرئة اليهود» وتضمنت التأكيد على أن «ما أرتكب أثناء آلامه ـ المسيح ـ لا يمكن أن يعزى إلى جميع اليهود الذين كانوا يعيشون آنذاك، ولا إلى يهود اليوم، وما حصل للمسيح من عذاب، لايمكن أن يعزى لجميع الشعب اليهودي » وأكدت الوثيقة على عدم توريث المسئولية إلى يهود اليوم أو سحبها على جميع اليهود. أثار نص الوثيقة جدلا واسعا بعد صدوره، بين الطوائف المسيحية، وقد قبلها البعض، ورفضها البعض الآخر، خاصة الكنائس الشرقية، وكان تعليق قداسة البابا شنودة الثالث ـ بطريرك الكرازة المرقسية وبابا الإسكندرية الراحل ـ «إن الذين يبرئون اليهود من دم المسيح، يعطونهم شيئا لا يجرؤ اليهود أنفسهم على طلبه، ولا يستطيع اليهود اطلاقا أن يطلبوا تبرئتهم من دم المسيح، والسبب بسيط، فاليهود لا يعتقدون أن المسيح قد جاء، فكيف يطلبون تبرئتهم من دم شخص يرفضون الاعتراف بمجيئه ولا يؤمنون بأنه جاء أصلا»
وفي عام 1969 صدر إعلان «الاعتراف الديني» بدولة إسرائيل وأحقيتها في الوجود.
عام 1972 وبعد أن حاولت إسرائيل منذ بداية السبعينات اختراق الفاتيكان دبلوماسيًا وأمنيا قام زافي زامير، رئيس الموساد الإسرائيلي، بترتيب رحلة لرئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير إلى الفاتيكان وأثناء الأعداد لها كان زامير يبحث عن أماكن في قصور الفاتيكان يمكن له أن يزرع بها أجهزة تنصت وتجسس على سكان الدولة الأصغر في العالم، حال توقيع اتفاقية علاقات دبلوماسية بين البلدين، لكن بولس السادس كان يرى أن الوقت لا يزال غير ملائم، ولهذا فإن مائير خرجت من لقاء بولس السادس بقولها «إن ساعة الفاتيكان غير ساعة العالم».
وفي عام 1973 صدر ما عرف بـ «وعد بلفور الكاثوليكي»..
ولغرض تفعيل حقيقي لنوسترا آيتات شُكّلت في الثاني والعشرين من أكتوبر 1974، من قبل البابا المطوَّب بولس السادس، لجنةُ العلاقات الدينية مع اليهودية، التي أُلحقت بالمجلس البابوي لتطوير وحدة المسيحيين، وهي لجنة مستقلة على مستوى تنظيمي، تولّت مهام متابعة تطور الحوار الديني مع اليهودية. بالإضافة، وعلى مستوى لا هوتي، أي بشأن العلاقة بين اللجنة والمجلس البابوي، هدفت اللجنة إلى تطوير الوحدة، لأن الفصل بين البيعة والكنيسة في الزمن الأول عُدّ بمثابة الشرخ في السنة نفسها لتأسيس تلك اللجنة، نشرت لجنة الكرسي الرسولي، بتاريخ واحد ديسمبر 1974، أولَ وثيقة رسمية بعنوان: «توجيهات ومقترحات لتطبيق الإعلان المجمعي نوسترا آيتات»، هدف أساسا إلى تجديد تلك الوثيقة، بقصد التقرب من اليهودية لمعرفتها بالشكل التي هي عليه، والتعبير عن التقدير العميق من المسيحية، وتأكيد أهمية مساهمة الكنيسة الكاثوليكية في الحوار مع اليهود. فكما نقرأ في الوثيقة: «يقتضي الأمرُ من المسيحيين، وبشكل عملي، البحثَ عن فهم أفضل لمكونات التقليد الديني اليهودي والإحاطة بالخاصيات الرئيسة التي يعرّف بها اليهود أنفسهم في ضوء الواقع الديني الحالي». وعلى أساس شهادة إيمان الكنيسة بيسوع المسيح، ركّزت الوثيقة على الطبيعة الخاصة للحوار بين الكنيسة واليهودية. حيث يحيل النص على الجذور الليتورجية للمسيحية في ظل اليهودية، كما يشير إلى فرص التقارب في مجالات التدريس والتعليم والتكوين، وبالنهاية يقترح النص أنشطة مشتركة في المجال الاجتماعي.
ومرة أخرى في أواخر آذار 1976 حذر إسحاق حوفي، مدير الموساد، من أن الإرهابي الشهير كارلوس يجهز لعملية اختطاف أو اغتيال البابا بولس السادس عينه، وأبلغ بذلك رجالات الفاتيكان ردًا على جميل إنقاذ جولدا مائير من محاولة اغتيال كانت تخطط لها جماعة أيلول الأسود.
في عام 1979 زار البابا يوحنا بولس الثاني معتقل أوشفيتز الألماني في بولندا، حيث لاقى العديد من اليهود البولنديين حتفهم خلال الاحتلال النازي لبولندا في الحرب العالمية الثانية .
وعلى بعد إحدى عشرة سنة من ذلك التاريخ، نشرت لجنة الكرسي الرسولي، في الرابع والعشرين من يونيو 1985، وثيقةً ثانيةً بعنوان: «بشأن العرض الصائب لليهود واليهودية في التبشير والتعليم الصادرين عن الكنيسة الكاثوليكية». كان لها توجهٌ لاهوتي، بشكل عكس طبيعة العلاقة بين العهدين، القديم والجديد، وحدّد الجذور اليهودية للإيمان المسيحي، وصوّر الشكل الذي عُرض به اليهود في العهد الجديد. مبرزة الوثيقة ما يجمع ليتورجيا الديانتين، خصوصا في المناسبات الاحتفالية الكبرى للسنة الليتورجية. وتتوقف الوثيقة باقتضاب عند العلاقة بين اليهودية والمسيحية في التاريخ. وبخصوص «أرض الآباء»، أكدت الوثيقة أن «المسيحيين مدعوون لفهم هذا الارتباط الديني، الذي يرمي بجذوره في التراث الكتابي، دون القيام بتفسير ديني خاص لهذه العلاقة… وفيما يخص وجود دولة إسرائيل وأبعادها السياسية، حثّت على التعامل مع المسألة بنظرة غير دينية، بما يراعي مبادئ القانون الدولي».
وفي عام 1982 أعلن الفاتيكان اعترافه بـ «دولة إسرائيل كحق وليس كأمر واقع».
وفي عام 1985 وضع الفاتيكان مؤلفاً بعنوان: “”ملاحظات لتقديم أفضل لليهود واليهودية.
….. يتبع ….