العلاقات بين اليهود والكنيسة الكاثوليكة: محطات التحول. الجزء الأول منذ الصلب –1962

بدأتا العلاقة بين المسيحية واليهودية متوترة. تجلت في خروج المسيح على شرع اليهود وقيام اليهود بصلبه. وعليه تأسست علاقة عداء مباشر، اعتبر فيها اليهود مسؤولين عن قتل المسيح المخلص. بعد قيام الكنيسة استمرت العلاقة بين الكنيسة واليهود حيث قامت الكنيسة باضطهادهم. لكن بعد أحد عشر قرنا نلحظ أن تغيرا قد بدأ يظهر ليصبح تحولا.

 مرسوم حماية اليهود: عام 1120 صدر من قبل البابا كاليكستوس الثاني والذي كان يهدف إلى حماية اليهود. كان الدافع وراء إصدار المرسوم الحملة الصليبية الأولى، حيث تم ذبح أكثر من خمسة آلاف يهودي في أوروبا. ثم أكد من قبل العديد من الباباوات بما في ذلك البابا ألكسندر الثالث، وسلستين الثالث (1191-1198)، وإينوسنت الثالث (1199) ، وهونريوس الثالث (1216)، وغريغوري التاسع (1235)، وإنوسنت الرابع (1246)، وألكسندر الرابع (1255)، وأوربان الرابع (1262) وغريغوري العاشر عام 1272 وعام 1274، ونيكولا الثالث، ومارتين الرابع (1281(، وهونيروس الرابع (1285-1287)، ونقولا الرابع (1288-1292)، وكليمنت السادس (1348)، وأوربان الخامس (1365)، وبونيفاس التاسع (1389)، ومارتن الخامس (1422) ونقولا الخامس (1447)..ومنع المرسوم البابوي المسيحيين إجبار اليهود على التحول إلى المسيحية، وإيذاء اليهود، وأخذ ممتلكاتهم، وإزعاجهم خلال الاحتفال بأعيادهم، ومن التدخل في مقابرهم. وتم فرض عقوبة الحرمان الكنسي على المسيحيين الذين يقومون بمضايقة اليهود.

في مايو/أيار عام 1897 أعلنت الكنيسة الكاثوليكية في الولايات المتحدة الأمريكية موقفها من الصهيونية المسيحية مبكراً عندما صرحت في بيانٍ لها «إن إعادة بناء القدس لتصبح مركزا لدولة إسرائيلية يعاد تكوينها يتناقض مع نبوءات المسيح نفسه الذي أخبرنا أن القدس سوف تدوسها العامة حتى نهاية زمن العامة أي حتى نهاية الزمن». وعشية المؤتمر الصهيوني الأول (29 أغسطس/ آب 1897) بعد أن أصدر الفاتيكان بيانا جاء فيه:« لقد مرت 1827 سنة على تحقيق نبوءة المسيح بأن القدس سوف تدمر، أما فيما يتعلق بإعادة بناء القدس بحيث تصبح مركزا لدولة إسرائيلية يعاد تكوينها، فإن ذلك يتناقض مع نبوءات المسيح الذي أخبرنا بأن القدس سوف تدوسها العامة حتى نهاية الزمن ـ لوقا 40: 42 ـ وكان موقف الفاتيكان يثير هواجس القلق لدي «هيرتزل» مؤسس الصهيونية،

في عام 1904، التقى تيودور هيرتزل مع البابا آنذاك «بيوس العاشر»، وطلب منه المساعدة على إقامة وطن قومي لليهود على الأراضي الفلسطينية، ليأتيَ الجواب من البابا: «نحن لا نستطيع أن نساند هذه الحركة، ولا يمكننا منع اليهود من الذهاب إلى القدس، كما أنّنا لن نضع قيوداً عليها، إنّ أرض القدس، وإن لم تكن دائماً مكرسة لعبادة الله، قد قدّسها السيد المسيح بحياته فيها، وأنا بصفتي رئيساً للكنيسة لا أستطيع أن أجيبك خلاف ذلك. اليهود لم يعترفوا بالمسيح، لذلك لا يمكننا نحن الاعتراف بالشعب اليهودي، والقدس على هذا الأساس لا يمكن وضعها في أيدي اليهود».

خلَف البابا بيوس العاشر البابا بندكتوس الخامس عشر على رأس الكنيسة بين 1914 و1922 فاستأنف توجّه أسلافه المناهض للوطن اليهوديّ حين رفع شعاره التاريخي «لا لسيادة اليهود على الأرض المقدّسة»، إذ كان البابا بندكتوس قلقاً من أن يُنشئ وعد بلفور حالة من التفوّق والتمايز لليهود على حساب المسيحيّين، وأن يوكَلَ أمرُ الأماكن الدينيّة إلى السلطات اليهوديّة، فحذّر في 13/3/1919 من تلك التطوّرات قائلاً: «سيؤلمنا كثيراً، كما سيؤلم جميع أبنائنا المسيحيّين، أن يصبح لغير المسيحيّين وضع مميّز في فلسطين، بل أكثر من ذلك، أن يُعهد بأمر تلك المعابد المقدّسة العائدة للمسيحيّين إلى سواهم. من ناحية أخرى، تمثّلت الترجمة العمليّة لمعارضة الفاتيكان «الوعد» باستقبال البابا بندكتوس الخامس عشر البعثة العربيّة الفلسطينيّة عام 1921 وكانت ذات تأثير كبير في تحريك الشارع الفلسطينيّ ضدّ المشروع الصهيونيّ. واندرج استقبال البابا لتلك البعثة في إطار دعم أيّ جهد، خاصة عربيّ، لمواجهة المدّ الصهيونيّ المتعاظم، فضلاً عن دعم مشاركة المسيحيّين العرب في النضال الوطنيّ ضدّ الحركة الصهيونيّة. وكرد فعل على وعد بلفور صرح البابا بندكت الخامس عشر عام 1917 «لا لسيادة اليهود على الأرض المقدسة».

في 15 أيار 1922 وجّه الفاتيكان رسميّاً مذكّرة إلى عصبة الأمم تحمل توقيع الكاردينال غاسباري وفيها عدم موافقة على «أن يُمنح اليهود وضعاً مميّزاً ومتفوّقاً بالنسبة إلى القوميّات والطوائف الأخرى». وأمام هذه الحيثيّات يتّضح أنّ الالتزام الدينيّ كان وراء وقوف الفاتيكان والبابوات في وجه المشروع الصهيونيّ القاضي بإنشاء وطن لليهود في فلسطين. بتاريخ 21 يوليو/تموز عام 1944 أعلن مكتب العقيدة في الفاتيكان في زمن حبرية البابا بيوس الثاني عشر عن رفضه الصريح للتعليم الألفي.

فنظرة الكاثوليكية التقليدية للحكم الألفي المذكور في سفر الرؤيا الإصحاح 20 تنص على أن حكم المسيح بدأ فعلاً مع مجيئه الأول إلى الأرض (الرقم ألف هنا ذو قيمة رمزية) وسينتهي مع مجيئه الثاني عند نهاية العالم، عندما تقوم كل البشرية من الموت فيذهب الأبرار إلى الحياة الأبدية والأشرار للعقاب الأبدي. فلا يوجد أي فترة ألفية ما بين عصر الكنيسة ونهاية العالم.

عام 1945 قوبل قرار بريطانيا في التخلي عن انتدابها لفلسطين الذي أعلنته في ربيع عام 1947 بامتعاض من قبل الحبر الأعظم (البابا بيوس الثاني عشر وقتها) الذي لم يستطع أن يرى طريقة مرضية بديلة لحماية المصالح الكاثوليكية في الأرض المقدسة. كانت الفكرة الأكثر قبولاً لدى الفاتيكان هي أن يعهد بإدارة فلسطين إلى الأمم المتحدة. 

وفي عام 1946 أرسل الفاتيكان مبعوثاً إلى واشنطن ليبلغ الولايات المتحدة: «أن الكاثوليك في العالم لا يمكن أن يجرحوا في كرامتهم الدينية إذا سلمت فلسطين لليهود أو وضعت بصورة عملية تحت السيطرة اليهودية».. وتعرض الفاتيكان لضغوط قوية من أجل تغيير هذا الموقف، وكان الضغط مباشرا من الولايات المتحدة الأمريكية، غير أن الكرسي الرسولي استمر على تأكيد مواقفه، فلم يعترف بإسرائيل، ورفض بداية قرار التقسيم ثم عاد للموافقة عليه

بعد صدور قرار التقسيم عن الأمم المتحدة في عام 1947، ورفضه من قبل العرب، وجد اليهود فرصة سانحة لإقامة دولتهم على أرض فلسطين. ووفق استراتيجية مدروسة، أجبر الصهاينة الفلسطينيين على النزوح عن وطنهم وصادروا ممتلكاتهم، فأحجمت الفاتيكان عن الاعتراف بإسرائيل، بعد أن هالها تشريد 75% من مسيحيي فلسطين، واصطدام مساعيها الرامية لإعادة اللاجئين.

حتى شهر أيار 1948 وبعد الإعلان عن قيام دولة الاحتلال «إسرائيل» كتبت صحيفة الفاتيكان: «إن الصهيونية ليست تجسيدا لإسرائيل، كما وصفتها التوراة، الصهيونية ظاهرة معاصرة قامت على أساسها الدولة المعاصرة، وهي فلسفيا وسياسيا علمانية، إن الأراضي المقدسة والأماكن المقدسة تشكل جزءا وقطعة من العالم المسيحي». وأعلن البابا بيوس الثاني عشر (في أكتوبر/ تشرين الأول 1948) أنه «يحبذ إعطاء طابع دولي للقدس وجوارها، كأفضل ضمان لسلامة المقدسات في ظل الظروف الراهنة».

استمر العداء لأي شكل من أشكال تقسيم فلسطين من جانب الفاتيكان عندما أعلنت دوائر الفاتيكان أن الحبر الأعظم على استعداد للترحيب باستمرار نظام انتداب ذي مهمة محددة هي فرض النظام والأمن والسلام كحل مؤقت تقوم الأمم المتحدة بتجربته، لكن حرب 1948 التي جعلت تقسيم مدينة القدس أبديًا قطعت هذه المبادرات السياسية والدبلوماسية عن طريق التأكيد، بدون أية ظلال من الشك، على قوة دولة إسرائيل الجديدة، وعدم قبول أية خطة للتطبيق خاصة بخلق دولة فلسطينية واحدة. كذلك فقد ركزت الانتباه على مشكلة الأماكن المقدسة في القدس خلال الصراع الذي جرى في العام 1948.واستكملت بقبول القرار 181 القاضي بتقسيم فلسطين دولتين، فلسطينيّة وإسرائيلية»، والداعي كذلك إلى تدويل القدس.

غير أنّ هذه المواقف الفاتيكانيّة لم تدم طويلاً، ويا للأسف، إذ بدأت تتراجع مع بدء الاعتراف بـ«الحقوق المدنيّة لليهود في فلسطين». . .

….. يتبع…..