النظام المدني العلماني: الدولة والعلمنة – الجزء الخامس

13ـ موقف الكنيسة والإسلام من العلمنة.

وقفت الكنيسة في أوروبا، كما بعض الفرق الدينية في الإسلام المحمدي، موقفا عدائيا من «العلمنة»، التي أرادت، باختصار، أن تنتزع من «الدولة التيوقراطية»، نفوذها الدنيوي، ولم ترضخا ( الكنيسة والفرق الإسلامية) طوعا للعلمنة، إلا بعد أن هزما أمام المدارس العلمية، من طبيعية واجتماعية، وأمام انبثاق النهضة المعرفية، التي أعطت العقل الدور الأول في تفسير الظواهر الطبيعية وانعكاساتها على المجتمعات الإنسانية والأفراد.

      وقد كان للأحداث الكبيرة، التي شهدها حوض البحر السوري «الأبيض المتوسط» دورا هاما في تعجيل سير قطار العلمنة، وأبرز هذه الأحداث خمسة وهي: حركة النهضة في إيطاليا في القرن الخامس عشر وانتشارها في أوروبا. الانقلاب العلمي الذي بدأ رسميا بنشر كتاب كوبرنيكوس عن النظام الشمسي، والذي وصل إلى ذروته عند  ـ صدور كتاب نيوتن «المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية». الثورة الصناعية التي بدأت في القرن السابع عشر. صدور كتاب «أصل الأنواع» لداروين عام 1859، وكتاب «رأس المال» لماركس عام 1867. وخامسا امتداد حصيلة هذه الحركات بعد تفاعلها إلى خارج أوروبا(1).

      ونضيف إلى هذه الأحداث، بل نقدمها عليها، إعلان الحقوق الأميركي عام 1776، والذي أنجزه الأميركيون بالثورة بين عامي 1776 و1783، هذا الإعلان الذي كان بداية الطريق للحرية(2) في العالم القديم، والذي تبلّور في أوروبا بالثورة الفرنسية عام 1789، التي فجرت الصراع بين الثورة الجديدة والكنيسة، وأدت إلى انهيار النظام القديم، «وكان من حسن الطالع أن بسط عملها تبسيطا مدهشا، وذلك أنها لم تجد نفسها مجبرة على أن تهدم شيئا، فإنه في ليلة جمة النشاط من ليالي شهر أغسطس 1789 (ليلة 4) تنازل الأشراف ورجال الدين وأعضاء مجالس المقاطعات والبلديات والشركات والنقابات، في موجة من موجات الفزع والكرب، عن حقوقهم وامتيازاتهم الإقطاعية، وانهار بذلك النظام القديم عند ارتطامه بالعواطف الثورية.. وكانت ثمة فكرة واحدة انتشرت هي أن الشعب هو صاحب السيادة، ومصدر كل سلطة.. وصار الفرنسيون أعضاء أخوة متضافرة حرة متساوية..»(3)

وجنحت الثورة في تصديها لنفوذ الكنيسة حتى حدود إخضاعها للسلطة المدنية، مع ما رافق ذلك، من اخضعا رجال الدين لدستور مدني، اعتبره بعض المؤرخين عيبا ناتجا من منطق الثورة الديمقراطي بعينه(1).

لقد ذهبت الثورة الفرنسية بعيدا في انتزاع مكاسبها في الحرية والاستقلال عن «مركزية» الدولة الدينية، التي كان مرجعها البابا في الدولة الإيطالية، وذلك عندما رفضت الثورة الاعتراف بسلطة أي أسقف أو رئيس أساقفة تقع أبرشيته خارج حدود فرنسا، والمقصود في ذلك البابا ومؤسساته الدينية، المتمركزة في الفاتيكان، داخل إيطاليا.

إزاء ما تقدم، لم يكن أمام الكنيسة من مفر، «إلا أن يستنكر البابا هذا الدستور المدني، الذي لم يؤخذ رأيه فيه، في أية مرحلة من مراحله، والذي جرح ضمير العالم الكاثوليكي»(2) لماذا؟

لأنه لا يوجد، أو لا تقبل المؤسسة الدينية أي اعتراض على مركزيتها. فحيثما وجد مركز السلطة الدينية، إلى ذلك المركز يجب أن يتجه مجموع المؤمنين. وبما أن مركز المسيحية في رومية وجب أن يتجه المسيحيون إلى رومية لتفرضها سلطتها الدينية والسياسية عليهم كما تشاء ومن هذه الوجهة تكون الثورة الفرنسية، قد وجهت إلى الكنيسة صفقة قوية، خصوصا متى أدركنا، أن روح هذه الثورة، قد اجتاحت الشعوب، التي صارت تتململ من وطأة السلطة الروحية، إلى الأخذ بنظرات جديدة تساعدها على التحرر من نفوذ رومية وسيطرتها، إلى رحاب العلمنة، والانتماء والولاء للدولة المدنية ودستورها المدني، وذلك عبر طريق شاق وطويل خاضته تلك الشعوب، وقدمت على مذبحه الدموع والدماء. وفي الخلاصة، «لنتذكر البابا بيوس التاسع وتصريحاته في سنة 1854، التي دان فيها حرية الضمير، وفصل الدولة عن الكنيسة والفلسفات العقلانية»(1)، ولنتذكر أيضاً كلام البابوات في القرن التاسع عشر ضد الفلسفة الليبرالية والعلمانية والديمقراطية؟!

أما ردة فعل بعض الفرق الدينية في المحمدية على موضوع العلمنة، فكانت، باختصار، الدعوات إلى الأصولية ـ  السلفية، والحركة التكفيرية(2) لإقامة «دول إسلامية» ، في بلاد الشام والعراق ومصر وأفغانستان وغيرها. ومنذ رفع الشيخ حسن البنا (1906 ـ 1949) شعار «أن الإسلام عقيدة وعبادة ووطن وجنسية ودين ودولة وروحانية ومصحف وسيف» (3)، لم يعد هذا الشعار خاصا بالإخوان المسلمين، فقط، بل صار كأنه مسلمة ثابتة لدى جميع الحركات الإسلامية التي ظهرت في خمسينيات القرن الماضي حتى اليوم، أو كأنه «تكليف شرعي» لدى بعض الجماعات الإسلامية الحركية التي أفسدت في سلوكيتها مفاهيم الدين والدولة، التي وردت في القرآن الكريم، وهذا الأمر، يحتاج إلى دراسة مستقلة، وهو ليس من اختصاص دراستنا هذه.

إن دعاة «الدولة الدينية» في الإسلام واتباعها، لم يقدموا نموذجا جذابا للحرية والعدالة، «فالدول الإسلامية كانت دائما، الأسوأ في مجال الحريات وحقوق الإنسان واحترام الفرد، وعدم اضطهاد الديانات الأخرى..»(1) فضلا عن اضطهادها للمفكرين العلمانيين من أي دين كانوا، وإلى أية طائفة انتموا. وما قلنا سابقا عن «الدولة الدينية» في المسيحية، ينطبق على «الدولة الدينية» المحمدية، «واذا درسنا تركية في زمن الخلافة، وجدنا إلى أي حد كان مجد المؤسسة الدينية يعمل لمصلحة تركيا قبل كل شيء. وكيف كانت تركيا تفيد من كونها مركز السلطة الدينية للمؤسسة المحمدية»(2) كما روما تماما.

  • خلاصة:

بعد كل ما تقدم، هل كل دولة علمانية هي دولة عادلة وخيرة؟ وهل يمكن التوفيق بين الدين والدولة؟

نقول، في الإجابة عن السؤال الأول:

ليست كل دولة علمانية دولة عادلة خيرة فكم من دولة علمانية اضطهدت رعاياها واستعمرت شعوباً أخرى واستعبدتها، وجعلتها تترحم على حكم الدول الدينية وظلمها!.

فالدولة العلمانية، هي الدولة القائمة على إرادة شعبها ومصلحته العليا في الحياة الحرة الكريمة العادلة الخيرة، التي تعرف حقوقها وسيادتها القومية، فتقف عندها، وتحترم حقوق الشعوب الأخرى وسيادتها، وتقيم معها علاقات مصالح غايتها الخير العام للإنسانية.

الله، كما في دعاء تقي الدين أحمد بن تيمية ينصر الدولة العادلة، وان كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة، وان كانت مؤمنة، فالدولة الظالمة هي دولة ظالمة، سواء أكانت مؤمنة، أو كافرة أو علمانية. أن الخير العام في هذه الحياة، هو من صفات الدول العادلة والمؤمنة في الوقت ذاته، التي يحكمها حكماؤها لمصلحة حياة شعوبها، والتي فيها الدين للحياة ولتشريف الحياة.

وبناء عليه، من الممكن التوفيق بين الدين والدولة، بشرط أن يكون الدين عنصرا قوميا من عناصر الدولة لا تتضارب أهدافه مع وحدة الأمة ونشؤ روحها القومية، لأنه اذا فقد الدين هذا الشرط، زالت عنه صبغته القومية، وعادت له طبيعته العامة.

وحدها الدولة الديمقراطية القومية المعبرة عن حياة الشعب وحريته ومستقبله قادرة على صيانة العلمنة في ظل دولة مؤمنة، وكي تبقى الديمقراطية خشبة خلاص الشعوب عليها، وفق ما ذهب إليه ماكيفر، أن تتمسك بمبدأين أساسيين:

المبدأ الأول: هو أنه لا يجوز مطلقا أن يسمح للحكومة بأن تفرض سيطرتها على حياة الجماعة الثقافية، وان تقيد حرية الناس في أن لا يختلفوا في معتقداتهم وآرائهم وطرق تفكيرهم وطرق حياتهم، إلا إذا إضروا، وهم يمارسون هذه الطرق بإخوانهم البشر ضرراً محسوساً.

المبدأ الثاني: الذي يرتبط بالأول، هو أنه لا يجوز أن تحتكر الحكومة السيطرة في النظام الاقتصادي ـ  النفعي، بحيث يؤدي قيامها بوظائفها الاقتصادية إلى سيطرة غير مباشرة على الحياة الثقافية. لأنه اذا أصبحت فرص الحياة، ومعيشة الأفراد والفئات تحت تصرف الحكومة، أصبحت قيم الحكام المهيمنين وايديولوجيتهم مطلقة، وأصبحوا ميالين إلى فرضها على الجماعة كلها، ليقضوا بذلك على حرية الروح فاذا استمسكت الشعوب بهذين المبدأين بيقظة تامة، بقيت حرة، واستمرت في تنفس هواء الحياة الذي تتنسمه من بعد عالم الحكومة(1)

الحلقة السادسة : القسم الثاني «دور العلمنة في المجتمعات المتعددة الثقافات»


(1)  ـ  د. صادق جلال العظم: نقد الفكر الديني، دار الطليعة، بيروت، ط 1 ، 1969 ، ص20.

(2)  ـ  فيشر: تاريخ اوروبا في العصر الحديث، ص1، روح الحرية

(3) – فيشر : تاريخ اوروبا في العصر الحديث (1789 ـ 1950)، دار المعارف ، طبعة 6، 

 ص 14 ـ 15

(1) – فيشر: المرجع السابق نفسه، ص 18 (للمزيد في التفاصيل) راجع ص 16 ـ 22

(2) – فيشر: المرجع السابق نفسه، ص 19

(1) – صقر ابو فخر: مجلة فكر، العدد 86، تاريخ كانون الاول 2004، ص 26

(2) – راجع ، صبحي الصالح: النظم الاسلامية، نشأتها وتطورها، دار العلم للملايين، بيروت، ط2، 1968 ، ص 130 ـ 133

(3) – المنجد في اللغة والاعلام: دار المشرق، ط 21، بيروت 1960، ص 143. والبنا هو مؤسس جمعية «الاخوان المسلمين» ، مات اغتيالا.

(1) – صقر ابو فخر: فكر، العدد 86 ، ص 27

(2) – انطون سعاده: المحاضرات العشر، المحاضرة السابعة.

(1) – ماكيفر: تكوين الدولة، ص 524