انتهت مهلة هدنة الستين يوماً، في الجنوب اللبناني والتي تحتم، انسحاب العدو الإسرائيلي من قرى الجنوب، والعودة إلى الخط الأزرق، وبالتالي انتشار الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل في البلدات والقرى الحدودية فكان التداعي الباكر صباحاً، لأهل الجنوب للعودة في حركة شعبية واسعة، فاجتمعوا عند حواجز الجيش اللبناني ينتظرون السماح والذي جاء به إصرارهم، رغم تهديدات قادة العدو لمنعهم، لنية لديه بعدم الانسحاب.
شكل زحف الجنوبيين مشهداً غير مألوف وهو يواجه بالصدور العارية والقبضات المرتفعة وصور الشهداء، آليات العدو من مساحة صفر.
وهذا ما دفع إعلام العدو إلى الإعراب عن مخاوفه من العودة التي تنقض كلياً هدف قادة العدو من الحرب وهي عودة أهل الشمال في مستوطناته، الذين لم يحركوا ساكناً نظرا للرعب الذي يعانوه وهنا تبرز معادلة من هم أهل الأرض الحقيقيين.
مشهدية يوم العودة الأحد، والاثنين الذي تلاه، كانت بزخم عودة 25 أيار 2000، وبعنفوان 14 آب 2006، يوم عبرت قوافل النازحين الجسور المهدمة والطرق المدمرة إلى قراهم، تعيد بنائها لتعود أجمل مما كانت. صورة وصفها الإعلام بأنها العودة الثالثة.
بهذا العزم توجه الجنوبيون إلى استعادة قراهم تسبقهم أمهات الشهداء يقتفون أثر أبنائهم الشهداء المزروعين في ارض الجنوب فتجعل من التراب مقدساً، بمعمودية دم الأبطال، وقد قاتلوا حتى الشهادة، ولا زالت أجساد بعضهم مفقودة الأثر وتحت الركام.
طوبى لهن أمهات الشهداء، في مقدمة العائدين كانوا، يقصدن ارض قراهن ويحملن صور الأبناء الشهداء وهاجسهن انتشال الأجساد المعطرة بالشهادة، تتقدم هاماتهن الملتحفة بالأسود غير آبهة لا برصاص العدو، ولا بفوهة دباباته الموجهة عليهن، مدركين ان الثمن قد يكون دمهن، فارضهن تستحق.
قالت احدى الجدات في طريق عودتها إلى قريتها « ابني شهيد وحفيدي الوحيد كذلك، لكننا لن نترك قرانا محتلة » بهذا الإيمان توجه الجنوبيون، عُزّل لكنهم مسلحون بالإيمان.
العائدون لإيمانهم بالانتصار على العدو مع الجيش الذي حرص على سلامتهم، بينما هم غير عائبين فكانوا السباقين، في عيتا الشعب، مثلاً عبدوا له الطريق ليدخل بدباباته وعتاده.
يوم العودة كان الثمن غاليا بدم الشهداء وبلغ عددهم 22 شهيداً وجرح نحو 130 بينهم نحو سعة أطفال كما تم اسر اثنان، وبالمقابل تمكنت العودة الشعبية من استعادة ثمانية عشر بلدة في القطاعين الشرقي والأوسط في اليوم الأول وأعقبها تحرير قرى القطاع الشرقي في يوم العودة الثاني.
تجدر الإشارة أن إصرار الجنوبيين على العودة كسر محاولة العدو مدعوما بضغوط الإدارة الأميركية لتمديد مهلة الهدنة، مدركين أن المقصود هو استمرار الهدم والتدمير، لتصبح أشبه بالقرى السبع التي ألحقت بكيان العدو ولا تزال.
إن التزام لبنان بالقرارات الدولية وخاصة القرار 1701 الذي بموجبه يجري الانسحاب في الجنوب يترك أسئلة كثيرة عن مدى التزام العدو بهذا الاتفاق كما بسواه، ولا يغيب عن البال تعنته وعدم اهتمامه مرة بالقوانين الدولية، وصورة قادته يمزقون ميثاق الأمم المتحدة، حاضرة أمام الأعين، كذلك تجاهله الدائم لقرارات الأمم المتحدة منذ نشوء هذا الكيان، إلى اليوم.
وحدها القوة أثبتت جدواها في التعاطي مع هذا العدو، وكل جدلية الانتصار والهزيمة في هذه الحرب ليست بمشاهد التدمير ولا بعدد الشهداء، وفي التاريخ الحديث النماذج كثيرة، مدينة ستالينغراد المدمرة والتي بلغ عدد ضحاياها المليونين، كانت المعركة التي هزمت المانيا وجعلت الانتصار لدول الحلفاء، وبموجب ذاك الانتصار كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة وحق النقض في مجلس الأمن لهذه الدول المنتصرة في الحرب.
مشهد العودة وزحف الناس حتى على الإقدام نحو القرى، جعلنا نتذكر، الزيت المغلي الذي سكبته نساء الجنوب على العدو عام 82 في أزقة الجنوب، وذكرتنا بخالد علوان في الويمبي، بيروت، ونداء جيش العدو للمقاومين، لا تطلقوا النار نحن مغادرون وأمس، هكذا كان تراجع جيش العدو من القرى
إن« القوة هي القول الفصل» هذا هو سر النصر وهذا العدو الذي يستقوي اليوم بدعم الأطلسي كما فعل طيلة حربه على غزة وجنوب لبنان منذ عام وأربعة أشهر، لن يردعه عن استمرار احتلاله وتدميره إلا قوة المقاومة والإرادة التي تتجلى بوضوح كما العين التي تقاوم المخرز.
واي تلكؤ من الدولة عن دعم الجنوبيين في عودتهم، فتجعل الجيش هو السند والحامي، لن تكون لصالح هذه الدولة، التي يتم التهليل لها كعهد جديد للبنان، علماً ان موقف رئيس الجمهورية الداعم والداعي للثقة بالدولة والجيش يبنى عليه في السياق القادم.
مشهد العودة أعاد الزخم للمعادلة التي لا يمكن للبنان السير دونها الجيش والشعب والمقاومة، فالجيش هو الدولة، وهو الشرعية اللبنانية التي لا يمكن إلا أن تكون سنداً للمقاومة، وسط الأفق المسدود الذي تعده الولايات المتحدة الأميركية للمنطقة من مشاريع إفراغ غزة التي ينادي بها ترامب، نحو الأردن وسيناء، إلى محاولات تمديد الهدنة في جنوب لبنان وجعل الحزام الرمادي المهدم الخالي من السكان هو الشريط الحامي للكيان اليهودي على حدودنا، إضافة لاستكمال خطة الهيمنة على تلال جبل الشيخ والجولان، تمهيداً لتثبيت شعار إسرائيل الكبرى.
لكن من سيغير المعادلة والخريطة المعدة لبلادنا فهو إرادة شعبنا المصر على التحدي فينتصر في فلسطين عندما يستعجل العودة إلى شمال غزة، متماشيا مع مشهدية أهل الجنوب وهم يعودون إلى قراهم المكللة بغار البطولات والتضحيات والشهداء.
«ما اشد اعتزازي بكم» قالها سعادة لأبناء امتنا، ونقول لأمهات الشهداء نساء بلادنا “لحاملات الطيب” في بلادنا أنكن تصوغون عصراً جديداً لا هزيمة فيه، بل قيامة لبلادنا.