الميثاقية وأخواتها

ليست حفلات الجنون التي نشهدها بشكل متكرر وممجوج في لبنان أمرا طارئاً، بل هي رافقت قيام الكيان، بل وسبقته منذ أن قررت الدول الغربية الاستثمار في صراعات الطوائف في السلطنة العثمانية المتهالكة.

لقد بني كل التدخل الاستعماري عندنا على مقولة أننا لسنا شعباً، ولا نستحق أن نكون.

بل نحن قطعان من الطوائف أو العشائر أو القبائل، وأن أقصى ما يمكن أن نطمح إليه هو إرساء توازنات مزعومة بين المكونات المتصارعة، لنخلق هدنة تفصل بين حروبنا العبثية المتتالية.

والأنكى أننا ارتضينا الأمر، وصارت كل نقاشاتنا وأديباتنا تدور حول أفكار بالية خاوية من المعنى، اخترعنا لها اجتهادات لغوية من نوع العيش المشترك، والتوازنات الأهلية، وآخرها وأدهاها الكلام عن الميثاقية، ميثاقية العيش المشترك.

 هي مقولة تفترض أساسا أننا لسنا شعبا كبقية الشعوب، وتالياً لسنا مواطنين ننتمي إلى مجتمع ودولة، بل أفراد ننتمي إلى القبيلة – الطائفة، وأننا لا نتمتع بحقوق وواجبات إلا بقدر ما يمليه انتماؤنا إلى هذا القطيع.

ورحنا نخترع ما أسميناه أعرافا، وهي مبررات لعدم الاحتكام إلى قانون مدني وتوسعت هذه الأعراف حتى تفوقت على الدستور نفسه.

لقد تبارت القوى السياسية جميعها في استنباط هذه الأعراف وفقأ لأهوائها ومصالحها فصارت أعرافا متقلبة صعودا وهبوطا وفقأ للأهواء والمصالح السياسية، وباتت تتحكم بكل مفاصل حياتنا، والويل والثبور لمن يتمرد عليها، فهو يخالف ميثاق العيش المشترك، ويعرض للخطر السلم الأهلي برمته.

 وهكذا أصبح قانون الانتخابات لا يقر، إلا إذا سمح لكل طائفة باختيار ممثليها، كما وان على

الرئيس (أي رئيس من الجمهورية إلى الحكومة إلى المجلس النيابي)، أن يحظى بمباركة جهابذة الطائفة التي ينتمي إليها منذ ولادته وقبل أن يفقه معنى ذلك أو أن يكون له رأي في هذا الانتماء، لا بل ويجب أن يكون الأقوى (؟) في طائفته.

وحديثا أصبح للطوائف حق الفيتو، تحت مسمى الثلث المعطل.

ومن أجل ذلك تشحذ سيوف الطوائف لمنع أي خرق في الانتخابات من قبل المتمردين على طوائفهم. وقد أجمعت كل القوى السياسية على هذه الممارسة دون استثناء.

أما من يتجرأ على اختراق هذه الاصطفافات فيتم قتله وسحله إذا كنا في فترة صراع أهلي (فترة حروب الآخرين على أرضنا !!!)، أو يتم عزله وتخوينه إذا كنا في مرحلة الهدنة بين الحروب.

فمن هذا الذي يجرؤ لا يمثل طائفته، وبأي حق يترشح؟ وهو بكل حال مرغم على الترشح على مقعد إحدى الطوائف أنت في لبنان لا وجود لك خارج طائفتك شئت أم أبيت.

والمسرحية الأخيرة التي شهدناها تؤكد ما ورد،

فالخدعة التي تعرض لها فريق سياسي هي أمر عادي في علم السياسة وتحصل في كل مكان وزمان، ومن لا يصدق فليسأل أمير مكيافيللي،

وهي بالمناسبة تصبح عندنا أمرأ جللا يستهدف طائفة برمتها ويهدد وجودها!!

أما نهب أموال الناس، والدفاع عن اللصوص، ونشر الزبانية والفساد (من قبل كل من شارك في الحكومات المتعاقبة شريكا أو شاهدا) وأيضا إبقاء البلد مرتين متتاليتين دون رئيس وفي رعاية حكومة بتراء تصرف الأعمال، وإقفال باب التشريع وتأجيل الانتخابات البلدية، وإفراغ مؤسسات الدولة من كوادرها، وإطلاق يد المافيات في قطاعات الكهرباء والإنترنت والنفط والدواء، والقضاء على الرواتب وتعويضات التقاعد فهذه كلها مسألة فيها نظر.

الطائفية تجعل الكل خاسر، والوطن هالك وتبقى الدولة المدنية أملنا الوحيد للخروج من هذه الدوامة التي تقودنا إلى الهلاك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *